ما الذي جاء بها؟ هي لا تعرف المجاديف لكنها تعرف الإبحار في عمق المعاني. وهي لا تعرف المحاريث لكنها تعرف الهطول ورأفة الندى حين يقبِّل الزهرة وتنتشي بحنانه الأشجار. قدماها لا تسيران حيث يسير الناس ويرسمون طرقاتهم ويبتكرون أساليبهم ليصلوا إلى غاياتهم، إنها لا تتقن المدح والتدليس ولا فن الانحناء. فما الذي جاء بها؟ ولأنها دوما تحلق عالياً منذ صبا غافل فوق بساطة الغايات وبساط الهدوء، وعيناها تتوغلان في الأغوار البعيدة للأعماق لتدرك ما لا يدرك ممن حولها. فما الذي جاء بها؟ كفاها كانت وما زالت خاويتين، لكن قلبها كان وما زال كنزاً خفياً تحت ألق المحبة والحنان الذي يفيض على ما حولها ويجلل حضورها بالإشراق و البهاء. الألق الباذخ لرحابة حضورها الكوني. فما الذي جاء بها؟ هل هو عشقها للبحر وعنفوانه السرمدي؟ ربما! هل من أجل غبطتها بصليل الأصداف حين يباغت سمعها؟ ربما! وربما ذكرى الحداءات البعيدة في الصحارى، وصوت أمها العذب حين تغني، كما روت لها جدتها. وربما جاءت إلى خضرة «الغاف» الأليف حين تبرك قوافل «النوق» تحت ظلالها في قيظ المواسم أو إلى تلال الرمل الذي كالزعفران، إذ يحنو الشتاء بالمطر يكتسي زغبا وعشبا، وتنهض بين كثبانه نباتات وأشجار ظليلة. أو إلى فتنة أشجار «السمر» وجمال إخضرارها، إذ ترخي جدائلها على الهجير فيستظل به القائظون. أو إلى رافة «الإفلاج» في القيظ بين أحضان مسافي ووديانها، حين ترتخي النساء فيه ليغتسلن من قيظ رغباتهن؟ فما الذي جاء بها؟! فلا الإيقاع هذا عزف على أوتار أحلامها، ولا هو موسيقى لإيقاظ نشوتها ولا يعيد لها ذكرى طفولتها البريئة حين زقزقت في مهدها، وحين حبت طفلة وتمايلت خطواتها الأولى على ترابه. ولا يعيد لها وقع خطاها حين عادت إليه من هجرة لم تبتغيها، لكن أضراس الزمان مضغت خفاياها وقسرتها عليها، فعادت ترسم الطرقات إلى ما تبتغي. ولا هي تهدأ في حضرة الزمن الذي كالعشب المخاتل؟ فما الذي جاء بها!
هذا التراب ينوء بثقل أجدادها، حيث منازلهم كانت خياماً للتائهين كرحابة الأفق. فقد سيروا سفن المغاصات، والتقطوا اللآلئ من عمق منشئها. وأبدع جدها من تبره قلائد الذهب. تلك الخيام التي بنيت من سخاء النخيل، كانت مسقوفة بغبطة جدها، إذ يعشق الأقمار قبل استدارتها!
فما الذي جاء بها؟! هي لم تجئ لغابة الإسمنت والنهب المنظم في كل زاوية ودرب. جاءت لكي ترسي سفنها وتنظم اللؤلؤ شعراً وتسبك المعنى في عمقه دررًا. لكن ليس يبدو لها سوى هوة النسيان، وسوى بحر يجزر بآمالها كلما احتدم المحيط.. فما الذي جاء بها؟!