لديّ طبع غير مُستحب، نادراً ما أحفظ أسماء الكُتب، أما الكُتاب فلا أذكرهم تقريباً. علاقتي الوثيقة بالكتاب مرتبطة بما بين دفتيه، فلا أعبأ بالغلاف لا من ناحية المرسوم ولا المكتوب؛ وهذا ليس عن عمد إطلاقاً، ولكنه نتاج عملية عقلية بحتة، وقد تصالحت معه بهدوء، ووجدت فيه من الميزات أكثر من العيوب، رغم إشارات التوبيخ التي تصلني من وقت لآخر. فمؤخراً، تحدثت صديقة أمامي عن عشقها لأسلوب كاتب، وأرادت أن أشاركها النقاش، فأبديتُ عدم معرفتي به، فاستنكرت عليَّ ذلك. وعندما عدت لمكتبتي وجدت أني قرأت عدة أعمال لهذا الكاتب، أذكر تفاصيلها جيداً، وليس في ذاكرتي أي أثر لاسم الكاتب ولا صورة غلاف الكتاب!
الذاكرة انتقائية جداً، وعادة ما يصبح الأمر خارج إرادتنا إن لم نطوعه. أدركت علاقتي الضعيفة بالأسماء في عُمر مبكر، ولم أبالِ كثيراً بذلك، كوني مقتنعة أن ما يقال أهم كثيراً ممن يقال. والمُنتَج (بفتح التاء) أهم من المنتِج (بكسرها)، خصوصاً إن كنا في سياق التراث الإنساني الذي هو محصلة جماعية، لا فردية خالصة؛ فكل إبداع مهما كان نوعه وفرادته، هو نتيجة تراكم إبداع سابق بشكلٍ أو بآخر. وهذه «الانتقائية» في الذاكرة تزيد من فاعلية الإبداع، كون الذاكرة «التراكمية» في أغلب الأحيان تجعل صاحبها أسيراً للقائل وقوله فلا تنتج جديداً. هذه المعلومة أقنعتني جداً، كنت قد استمعت إليها في محاضرة نقدية شهدتها منذ سنوات في اتحاد الكتاب، مع التأكيد أني لا أذكر اسم المحاضر!
إن فعل القراءة لا يتحمل إطلاقاً صيغة الإلزام، لا في وقت القراءة ولا حجمها ولا طريقتها، إنه فعل التنوع اللانهائي في الخيارات، في خيارات كل شيء. بين صفحات «متعة القراءة» وهو كتاب قرأته مرات ومرات لـ «دانيال بِناك» - للعلم أنا لا أذكر الكاتب وأضطر للعودة للغلاف كلما أردت توثيقه - يضع فيه المؤلف عشرة حقوق للقارئ، أزيد عليها الحق في الاحتفاظ بما نشاء في ذاكرتنا، كما لوجداننا الحق في انتقاء ما يلامسه ويتلبسه من أفكار وأحداث. فالكتب تخلصنا من سلطان الزمان الذي نعيشه والمكان الذي نقطنه، سلطان الأسماء والألقاب. القراءة فعل تمرد من الدرجة الأولى، فعل القفز والتحليق خارج كل الحدود الموضوعة والمُتخيلة.