قد تدنو كثيراً، تقترب من الجدران، ولا تظل مسافة بينك والآخر، لكنك لا تراه ولا يراك. قد تبذل كل شيء لأحدهم ولكنه لا يراك، وكأنك تسكن في البعيد البعيد. قد تنادي بهمس أو بصوت عال ولكنه لا يسمعك. قد تحبه كثيراً ولكنه أيضاً لا يهتم ولا يبالي. يمضي وتمضي كل في طريق، لأن الوقت يخفق برايات وأجنحة وألوان قد تعمي النظر. وعندما تدور الحياة، وتكثر التجارب والمواقف، وبعد أن تعرف أو يعرف ذلك الذي يعيش في محيطات أخرى، ويتبع أصواتاً أخرى تنطفئ الألوان ولا يتبقى غير السراب والوهم، وقراءة الصور على غير حقيقتها. ربما تقف أنت والآخر على أطلال صخور وجدران ثابتة لكن الزمن نحت فيها أخاديد كثيرة. ذلك البعيد يعود إليك مثل أسراب فراشات تحلق في الفضاء أو عصافير مهاجرة لا تستقر، وقتها يظل البعيد جميلاً والحمام مثل طيف.. ترجو أن يعود شيء من لحظاته للذكرى.
تتعدد ميزات البعيد المرتحل، قد تأتي لحظاته المرّة مرة، ثم أوقاته الممزوجة بالعسل.. وعندها أيضاً يظل البعيد بعيداً، والماضي الجميل مجرد طيف زهرة تفتحت في صباح مشرق قبل أن يأفل.
هذا التقلّب بين أن تسعد بالبعيد أو تحزن للبعيد، هو صيرورة الحياة ونظامها، فلا تكتمل الأماني ولا تتحقق كل الأحلام. يكفي أنك أمسكت بلحظة من لحظاتها، كأنها فاصلة تلمع مثل برق يضيء السماء، ثم يتلاشى ويختفي. انعم بالبعيد، أو احزن للبعيد، ففي نهاية الأمر للحياة دورة لا تعرف أين مرساها.. قد لا يفهمك من كان قريباً جداً، وقد يعرفك من هو بعيد جداً!
امضِ في حب الحياة ودورتها، فهي كفيلة بأن ترسم صورة جديدة لك، اطو آلامك وأحزانك طي الحصير ودع الزمن يرحل بك إلى فضاء الأمل.
بعد أن رحل أو رحلت بعيداً، جاءت عاصفة عاتية بعثرت كل أوراق الذاكرة ومسحت الكثير وظل أيضاً الكثير!!
حقيقة واحدة تظل راسخة وساكنة وأبدية، وهي أنه ليس البعيد بالضرورة بعيداً فقد يسكن في أعماق الفؤاد والذاكرة، وليس القريب بالضرورة يحتل حيّزا في الفؤاد.. الماضي يظل مثل ناقوس يدق بعنف عندما تفوّت استغلال اللحظات الجميلة لتشيد بها مقاماً خالداً في القلب!
البعيد قد يوجعك كثيراً بأشياء جميلة من الصعب إعادة الحصول عليها.. هكذا تمضي الأيام والدنيا في جدلية السكون والرحيل.