لا تعرف قيمة الحب إلا عندما تراه في عيون الآخرين. الآخرون مرآتك التي تريك كيف تكون أنت بلا حب، وكيف يكون العالم حومة الورى، وهو يشب نيران المواقد ويذهب إلى الحياة بعيون ملأى بشرارات الكراهية.
ليس المطلوب مني ومنك أن نكون رقماً في القطيع، ولكن ليس من العقل أن يضع الإنسان الحواجز بينه والآخر بذريعة الحرية الشخصية، وكم نحن دفعنا ثمناً باهظاً، ونحن نتشدق بهذه الكلمة من دون أن نتلامس مع معناها الحقيقي.
لقد ذابت دول، واختفت أوطان بفعل هذه الحرية المدعاة، وصار العالم مثل بقع الزيت في المحيط، بعد أن غرقت سفينة الحرية لأسباب تتعلق بالحمولة الزائدة، الافتراءات، والهراءات التي يضفيها المزايدون على الحرية.
اليوم كل من لديه رغبة وطموح وتطلعات نحو موقع معين في الحياة، نجده يتحدث عن الحرية بإسهاب وإطناب، ولا يتوقف هديره ولا زئيره في البوح المطلق على آخره، والحرية هي الثوب الفضفاض الذي يرتديه كل معتد أثيم، وكل حكاء زنيم.
ويبدو أن المرحلة الاستهلاكية في حياتنا اليومية، هي التي رمتنا في كومة أفكار، تطاير منها دخان اللامبالاة، وأصبحنا في العتمة هذه نهيم في فراغات، تتلوها فراغات، حتى أصبحنا في حزمة الفراغات لا نقيم الأشياء إلا من خلال رؤيتنا الضيقة لها.
اليوم تعيش المجتمعات في أسر تبدو منهكة إثر الجفاف العاطفي، مستهلكة بفعل اللهاث خلف سراب مادي قاتل. اليوم تمارس الأسر في علاقاتها لعبة (الغميضة)، ففي البيت الواحد لا أحد يرى أحداً، الأبناء صغاراً وكباراً يغطون في الغرف مغلقة الأبواب، وخلف الجدران الصامتة، ولا أحد يسمع أحداً، والعين لا ترى غير فراغ الممرات والسقوف العالية.
علاقتك بأبنائك، كعلاقتك بشخص يسكن في الغرفة المجاورة في فندق خمس نجوم. أنت تراه في الخروج والدخول، وتسمع خشخشة مفاتيح غرفته، ولكنك لا تعرف من أين جاء، أو إلى أين هو ذاهب.
هذا الاغتراب العاطفي، يؤدي بدوره إلى استلاب، ومنه إلى خراب يحيق بالجميع. فقد تجد شخصاً يتحدث لك عن حالة شبيهة، وتدمع عيناه لمجرد تذكر الأيام الجميلة، ولكن هذا الشخص نفسه، لا يستطيع العودة إلى تلك الأيام، لأن السور عالٍ جداً وتسلقه يحتاج إلى إرادة مجتمعية فذّة، وليس إرادة فردية. ومن يتأمل المشهد، لا يجد بارقة ضوء تطل ولو من بعيد، على أن الناس أيديهم الاستعداد، قلب الصفحة، والعودة إلى مقدمة الكتاب، لنفهم ثيمة القيم التي نسيناها، بعد أن غادرنا منطقة الحب، وركبنا سفينة (أنا ومن بعدي الطوفان).