أخضُّ ساعة الصبر، أرجّها رجاً، لعل عقاربها الميتة تفيقُ من شلل الزمن. وأضعُ قدميّ في أحذية المسافرين لعل أجنحتي تتّسع وينفتحُ لها أفقٌ جديد في المدى. كنتُ أركضُ على حدود المتاهة متشبثاً بخيط الحذر، وكانت خطاي سفينتي، والصحراء كتاب أحلامي الصافية. ومن ترانيم أمي في الطفولة تعلمتُ شرب النشيد العذب. ومن مسحها بكفّ الحنان على رأسي، أدركتُ أن الوجود كله يمكنُ أن يُختصر في لحظةٍ يتوازى فيها الزمان مع المكان، ويتعامد خيطُ النور مستقيماً من العقل والقلب، وتبتسم الدنيا لك حتى لو كانت الليالي من حولك حالكة. لكنني كبرتُ أسرع مما ينبغي، وما كاد وجهي يتلفّتُ بحثاً عن الشمس بين الجهات، إلا وكانت الآمال قد حُبست في أقفاصٍ وهمية. ورأيتُ قطعاناً من المخدوعين بفكرة الخلود، يشربون عطشى من نهر السراب. وقال حكيمٌ لابنه، لا تصعد قطار الغرور، فإن محطته الأخيرة هي الندم. وسمعتُ عن تجارٍ كنزوا الذهب أطناناً وجبالاً، وصعدوا عليها لقطف النجوم من السماء، بغية وضعها في سلالٍ للبيع. وكان ذلك كله مجرد شكلٍ للأنا الضالة، للشحوب الذي يتسرب إلى القلوب ويمعنُ الطعنَ في بصيرتها. وأنا، لكي أنجو من حافة الهلاك، كان عليّ أن أنطح ظلالي المنعكسة على الجدران، وأن أفكّك كل الأسئلة عائداً بالكلمات إلى أصولها الأولى، ولا أصل للكلمات إلا في الصمت.
أخضُّ حصّالة الصبر، ولا أسمع داخلها شيئاً. ألبسُ قفّاز الحديد، وألكم عدّوي في الوجه، فتتهشمُ مراياي. وحين أخرج إلى الشوارع بحثاً عن المعنى، أكتشفُ أنني قصيرٌ في هيئة طفل، والنساءُ الجميلاتُ زرافات، ورجال الأعمال يلتقطون صورهم التذكارية تحت العمارات الزجاجية الفارهة. ثم تمتدُّ يدٌ وتضعني في باصٍ مدرسي أصفر. وما أعرفه اليوم عن الحقيقة هي أنها تولدُ صغيرةً معك، وتتربى في حضنك، حين يقول لك المعلمون: قف. وحين يجرّك الصبية المشاغبون لهدم الأسوار لأن الحرية تنام خارجها. وسوف تُدركُ مبكراً أن ما يقالُ سراً في الوشوشات هو لسان الحقيقة الناقصة. وأن ما يقالُ علناً في جرائد الخوف، هو الظلال المنكسرة للأشياء والكلمات وليس أصلها.
أهزُّ المهود الفارغة، بحثاً عن صيحات الطفولة الأولى. أنقّبُ في ألبوم الفراغ، لعلي أرى صورة النسيان مبتسماً لي. لكن الذكريات تصبحُ أثقلَ على القلوب، كلما طويناها وغلّفناها بالتجاهل والتغاضي والسكوت.