عندما كنت في الثامنة من عمري فلعتني ربيعتي «غاية» بحصاة رمتها على شجرة السدر التي حملت النبج (النبق) في أفرعها العالية المتشابكة. سال دمي فغطى جزءاً من وجهي، ولم تكن الإصابة بليغة لأني أكملت معها مشوار حصد النبج قبل أن يأتي الأولاد فيجرون مسحاً شاملاً ينظف الشجرة حتى من أوراقها. وما أن شاهد دمي «رشود» ولد يراننا (جيراننا) حتى قال لي: «عويش يا ويلك من أمك، مِنوه فلعك؟» نظرت إلى نفسي فوجدت رقائق الدم تتكسر بعد جفاف ذلك الجدول الصغير. وما أن تحول «العْصِيّر» إلى «مغيربان» حتى هرولت إلى المنزل ورشود يركض أمامي مبشراً والدتي: «خالوه، عويش فلعتها غايوه» فقالت المسكينة: «واحين وينها؟» فشع وجهي من زاوية الباب الموارب حتى وقفت أمامها لأسمع ما سمعته دوماً: «من شطانتك؟ وين يتك الفلعة؟» فأشرت إليها قائلة: «هنيه!» وبعد إجراء اللازم قالت: «الحين سيري لعبي وياها باكر، وان يتك الحصاة في عينك الجوكم على منوه؟».
بعد العشاء ذهبت لغسل يدي فنظرت إلى الملابس المتراكمة في زاوية الحمام وهي تنتظر الماء ومسحوق سيرف ودعك يد أُمي في الصباح، فسألتها: «أماية، ليش الدم لونه احمر؟» فهزبتني قائلة: «هبي، هباك الله... قولي بسم الله وارقدي وعن الرمسة اللي ما وراها فايدة».
حصاة صديقتي غاية، الصدفة، رأسي على تلك الزاوية من الحصاة، موقع السدرة، خطأ التصويب والدم المتدفق كلها أسبابٌ ومفاتيح جعلتني لا أتوقف عن السؤال عن الأسباب وماهية الأشياء. لذا عندما جالت بي الذاكرة وجمعتني الذكريات مع الحدث والكلمة بحثت عنه في لسان العرب وأتشارك المعرفة معكم.
يقول صاحب اللسان إن الهباء دقائق الترب ساطِعُه ومَنْثُورُه على وجه الأَرض. الهَبَاءُ من الناس: القليلو العقل. والهُبوبُ: ثَوَرانُ الرِّيحِ، كالهَبيبِ، والانتباهُ من النَّومِ، ونَشاطُ كلِّ سائِرٍ، وسُرعَتُهُ، كالهِباب. وعندما نقول «شو الهبة» فنحن نقصد الهِبَّةُ أي الحالُ، ومَضاءُ السَّيفِ، والسَّعةُ تَبْقى من السَّحَرِ، والحُقْبَةُ من الدَّهرِ. الريال الكفو، الجَسُورُ الشجاع يقال عنه «هَبْ ريح» وهذا ما قلطه عليه الفرزدق عندما قال:
((ومنا من اختار الرجال سماحةً... وجوداً إذا هب الـرياح الـزعـازع)).
للعارفين أقول، عميقة هي جذور اللغة العربية في مصطلحاتنا المحلية وعلينا أن نكون هابين ريح في المحافظة عليها؛ ففي تفاصيلها تسكن هويتنا الوطنية وعروبتنا وحضارة دولة الإمارات العربية المتحدة التي عززت الكرامة الإنسانية والآدمية فينا قولاً وفعلاً. رحم الله أمهاتنا وجداتنا لقد كن موسوعات من العلم والمعرفة.