هذه المرأة لم تزل تتذكر موقد النار، وتسهب في الحديث عن رغيف كانت تغرقه بملح اليدين، وتحرق أطرافه من حرقة الأصابع، ووهج المهجة المجللة بجلال البهجة حين تحط الفراشات عند حافة اللهب، ويسكبن من رحيق، وشهيق على لسان الجمرات حتى يصخب الموقد بصفير ونفير، هذه المرأة بثوب خيوطه من عرق الساعدين، كانت تبدو مثل ومضة النور في سماء ليلية، عندما كانت ألسن اللهب تكتب على القمر اللجين تاريخ أنثى خلدت الحلم، ولم تبرح مكانه، ولم تغادر موائل الأشواق القديمة.
هذه المرأة لم تزل تفوح بعطر القمحة التي نمت بين أناملها خبزاً للجياع، الذين انتظروا كثيراً حتى تبوء السجايا بنتفة، أو بعض رغيف ساخن، كانت المرأة عند عجيج النار، وتحت رضيض القيظ، مسربلة بأشواق، والأحداق نواهل، والأفق المنشق عن بياض المرحلة، كانت المرأة تبدو مثل غزالة تمضغ عشب النهار، وتخبئ بعضه لليلة باهرة، كانت تضع الملح في عجين تضورها، وتتخيل كيف سيمضي الليل من دون مضغة، ورشفة؟
كانت تفكر في الشيء نفسه في اليوم التالي، وترفع اليدين، اللهم بارك بها من نعمة، فتطفر الدمعة من مآق الكلف، والقلب مخضوض، ومكظوظ، ومرضوض، وممضوض، لا يخفي صولة الأجنحة وهي تفرش أشرعتها على صفحة محيط لا يكف عن العويل.
الله يا إرما، برعت في الحب كما أبدعت في رونق الحدب، الله يا امرأة، تناغم مع الوجود، كأنها الموجة في عرض المحيط، الله يا امرأة ترعرعت في كنف لم يخف الدنف، وسارت في الهوى، رافلة اللطف والعطف، والشقاء اللذيذ.
هذه المرأة فريدة، كفرادة اللغة على لسان أفصح من الماء الرقراق، عتيدة كالخليج، مديدة كامتداد الأفق في عيني طائر النورس، مجيدة كمجد الصحراء، تليدة كتاريخ الغافة، سديدة كسؤدد النخلة الوارفة، عند حدود الوجدان الإماراتي.
هذه المرأة، تخصب وعيها من عذوبة الفجر الذي كان نبع النهار، الذي منه تقصت قطرة الماء عند فيافي (الحديبة). هذه المرأة، لقد مر الزمان، وطافت ركابه الهضاب والوديان، حتى توارى خلف تلة النسيان، ولكنها لم تزل تقرأ الخطوات التي كانت، والحث الذي كان، والبث الذي كان، لم تزل تتهجى جملة العرفان لأرض ما خبأت خيرها في طيات الشح، بل كانت بنخوة النجباء تنث، وبشهامة النبلاء تمد أشرعة النوايا الحسنة.
هذه المرأة لم تزل تستقرئ كل هذا التاريخ، بعين لا تغفل، وقلب لا يوجل، وعقل لا يؤجل دروس اليوم إلى الغد. هذه المرأة، جذلة إلى حد الانتشاء، بتفاصيل زمن كان هو القماشة التي زهت على وجوه الكاعبات النواعس الدعج. هذه المرأة تكتب مذكراتها، عبر دموع تكسرت عند أطراف الجفون، وانسحبت ساخنة على خدين أجعدين، مثل سجادة قديمة.