من نافلة البوح تخرج امرأة من تحت الدخان، على وجهها سحنة من أسئلة، وفي عينيها بريق النجمة، وبين شفتيها ترقص أغنية قديمة، وتفيض بما جاش في المهجة المجللة بصور أشبه بأحلام الطفولة، وعفوية ترفل بالسندس، والإستبرق.
هذه المرأة من ذلك الزمان، ومن ذلك الزقاق المؤدلج بشفافية أنثوية لا مثيل لها إلا هي. هذه المرأة مدنفة بعطر أيامها، غارقة تحت غيمة أشف من عيني غزالة، بارقة مثل وميض السماء في ليلة شتوية ساهرة على هدهدة طير في الصدر، ما نام، ولا قام، ولكنه رفرف، وهفهف وملأ سكون الليل أغنيات أيقظت الأغصان، والأشجان، والألحان، ولم تزل تحفظ الود ممتلئة بأخفاق هزت الجذع، حتى سال حبر القلب جدولاً في تلافيف النهار، والشلال فيض الصور، وأحاديث الليالي المدهشة.
هذه المرأة تنام وتحت الجفنين فراشة تؤلب العينين، كي تفتح نافذة إلى الماضي، والماضي غرفة لم تغلق أبوابها، الماضي واد ذو زرع وضرع، وتفاصيل تبدو مثل أعشاب تربت على خصيب تربة هيفاء، ترتل آيات الشجو، بأناة وتؤدة، هذه المرأة من زمن كانت فيه الجدران تصافح بعضها، والأبواب تشرع خيالاً من ذهب.
هذه المرأة لم تزل تسكب من أبريق الحياة، شاي المساء، وتحكي عن حكاية الليل، بإسهاب، وإعجاب. هذه المرأة من وطر كانت فيه الفساتين، فضفاضة فياضة بالبراءة، وحيوية الروح، ووحي الريحان، كانت تخض الأرض وتفشي أسرار العفوية، كانت في الوجود سنبلة فارعة، ووردة يافعة، والزقاق القديم وتر لأغنياتها اليانعة وهي هكذا كانت، ولم تزل في المشهد المثال، والموال، والمنال، والمآل، والسؤال الذي لم يغلق علامة الاستفهام، ولم يثن غصن التطلع إلى بصيص النور في آخر النفق.
هذه المرأة من ثلج ونار، ومن وهج وأسرار، إنها الوعد المكلل بأحلام لم تخطر على بال بشر، إنها العهد المجلجل، في الثوابت، والنوابت، إنها العاشقة من زمن كان العشق فيه جمرة والبوح فيه سكرة، والصمت فيه انتحار الفراشات على أذرع الشجر، كانت كذلك كسائر الورود، يمضها اللظى، ولكنها لا تمضي بعيداً عن بصمة النظرة الأولى، كانت تحن حنين السواقي للأشجار، كانت تتلو النبضات، من صفحات فؤاد رتبت سطوره، كلمة حب، لا تخبو، ولا تنطفئ، هي هكذا شعلة في سرمد الليل البهيم، تطفو مثل إسفنجة على قارعة محيط، طوق الأشياء بملح التشظي.