ّيخيل إليَّ أن الزمن كائن خيالي اجتاح ذاكرتنا في محطة ما من محطات التاريخ الذي صنعناه بإرادتنا، وصغنا كل جواهره، وشرخنا كل مخابره.
دخل الزمن غرفة عقولنا في لحظة مباغته، وأصبح كائناً سرياً يتغذى على معارفنا، وخبراتنا، وعواقبنا، ومثالبنا وكذلك محسناتنا البديعية، ومساحيق التجميل، وأساور الأفراح، وألثمة الأتراح.
نحن الذين وضعنا الزمن في وعاء العقل، ونحن الذين وضعنا الأيام كشواهد لقبور الزمن، كما وضعناها تماثيل لبطولات ملحمية نفتخر بها، ونعتز بإنجازاتها.
نحن والزمن مثل العلاقة بين الحلم والعقل. عندما يزهو الحلم، يبدو العقل مزرعة للزهور، وعندما يقتم الحلم، يتحول العقل إلى حفرة عميقة تعيث بها حشرات نافقة.
نحن والزمن مثل العلاقة بين الطير والجناحين، عندما ننمو نحن يحلق الزمن في فضاء أعيننا، ويبدو الفضاء شجرة وارفة الظل، بين أغصانها ترفرف أعشاشنا.
نحن والزمن مثل الريح وخفقة الأوراق، عندما تشتد الريح، تطير الأوراق إلى الأعلى، وعندما تخفت الريح، تتدلى الأوراق خاوية بلا معنى.
نحن والزمن مثل العلاقة بين الفرح والابتسامة، عندما تتفتح أسارير الزمن، تبدو ابتسامتنا مثل جدول الماء الرقراق، وعندما يتقهقر الزمن، تصبح الابتسامة، بحيرة مغلقة، تتغذى فيها الطفيليات، والطحالب، وتتفشى رائحة الأسماك النافقة.
نحن والزمن مثل العلاقة بين الحقيقة والوهم، عندما تنشر الحقيقة بيانها، يسفر الوجود عن يقين لا يشوبه الكذب، والنفاق، وعندما يتورم الوهم في وعاء العقل، يخبو الوجود، ويتحول إلى أرنب جبان لا يطل على العالم إلا تحت جنح الليل، وتحت سطوة الظلام الدامس.
نحن والزمن مثل العلاقة بين الصدق والكذب، عندما يفرد الكذب عضلاته متبجحاً جارحاً، تبدو الحياة مثل كوكب يختبئ في زجاجة، وعندما تتفتح أزاهير الصدق، تنتاب العالم رعشة النخوة الأبدية، وتنمو في جسور التواصل، شجرة عملاقة يطلق عليها الحب.
نحن والزمن مثل العلاقة بين الوعي، واللاوعي، عندما ينتعش الوعي، وتنتشر أوراقه في دفاتر العقل، يصبح الإنسان نهراً خالداً لا ينضب، ولا يقضب، ولا ينكب، ولا يسلب. وعندما يشرئب الوعي، ويقلب اللاوعي طاولة الدرس رأساً على عقب، يتحول الإنسان إلى وحش كاسر يطيح بأشجار الغابة، ويتفشى ضرراً، وكدراً.
نحن والزمن مثل العلاقة بين الـ«نعم» والـ«لا»، عندما تحضر اللاءات، يختفي الإنسان خلف ركام من خوف، وجبن، وعندما تتولى الـ«نعم» مسؤولية القرار الوجودي، يصبح الإنسان ملكاً متوجاً بالمبادرة، والمثابرة، وتحديد المصير.