الإرث الأدبي الكبير الذي خلّفه وراءه شاعر الإمارات الراحل حبيب الصايغ، يضعنا في صميم السؤال الثقافي للمرحلة. وهو سؤال الشعر والشاعرية. سؤال المكون الأدبي الذي يختزن ذاكرة الخيال ويغذي اللغة ويمنحها بعدها اللانهائي واللامحدود تماماً كما هي فكرة الحرية. والشعر، الذي اتهمه كثيرون بالتراجع لصالح الرواية، كان في تجربة حبيب الصايغ يتقدم للأمام دائماً، حيث ظل حبيب يراكم ويبني تجربته الشعرية حتى ساعات رحيله الأخيرة. مؤمناً بأن النص الأدبي، إذا ما تعمّق في شاعريته، فإنه يقود إلى الخلاص من قيد الزمان والمكان. والشعر وحده هو القادر على التماهي مع هذه الفكرة والوصول بها حتى أقصاها.
من يرصد تطور هذه التجربة الغزيرة للشاعر الراحل حبيب الصايغ، الكبير خليجياً وعربياً، لا بد أن يقف عند الاجتراحات الفنية العالية التي رسّخها في بناء معمار النص الشعري. متنقلاً بأجنحة المعنى ما بين أشكال الشعر كافة. غير منحازٍ إلا إلى الجزالة، والى جعل الشعر يتخذ مجراه الطبيعي من غير جبر على نمط سوى إشباع هوى القلب، وترك الروح تسبح في فضاء لا يحده المدى.
بدأ الراحل حبيب الصايغ تجربته من عمق الشعرية وجذرها. حين قدم ملحمة مطولة في مجموعته الأولى (هنا بار بني عبس والدعوة عامة) ليرسّخ بعدها تجربة امتازت بالتنوع والثراء والمواظبة على التجريب والخوض في أسئلة الشعر لسنوات طويلة حتى أصبحت هذه التجربة عالماً شعرياً لوحدها. تعرفت عليه مبكراً في منتصف الثمانينيات، وأتذكر أنني رافقته لفترة في لندن في العام 1998، وامتدت حواراتي معه إلى محاور مهمة في رؤيته للشاعر الذي (يجب أن يتنقّل حراً داخل اللغة، حيث لا يجوز أن يلغي شكل شعري شكلاً آخر. وأن تحقق الشعرية في النص غير مرتبطٍ بالوزن، بل بمدى حضور الشعر فيه). وكنت مشدوداً لانتباهاته ومتابعاته الشعرية واهتمامه بالأصوات والأسماء الجديدة محلياً وعربياً. كان يقرأ تلك النصوص بشغف، مسحوراً أحياناً من جملة أو تركيب لغوي مختلف لشاعر صاعد. وفي الوقت نفسه، كانت حساسيته النقدية عالية جداً، وكان قادراً على الإمساك بمواضع الوهن في نصوص كبار الشعراء.
لعب حبيب الصايغ- رحمه الله- أدواراً وطنية كثيرة. وكرّس وقته وجهده وصحته، لإنجاز دائرة متكاملة من العمل في الأدب وفي الصحافة وفي إدارة العمل الثقافي باحترافية نادرة محلياً وعربياً، إلى درجة أنه من الصعب الآن على شخص آخر أن يشغل المكانة التي كان يملؤها بجدارة واقتدار.