الدهر الذي كنت تظنه يومين إما لك وإما عليك، صار عمراً كاملاً في الشقاء. يوماً، عندما انزلقت الكلمة المحرمة على لسانك ونطقتَ جهراً: أحبّها. ولا ندري لماذا بعدها دارت عليك العصيّ، وجرّك من أذنيك رجالٌ غلاظٌ وقيّدوك بسلاسل الخوف. ورأينا الأمهات يغلقن النوافذ والأبواب خشية أن يصل بوحك إلى سرائر بناتهن. ثم جاء رسّامون من الحقول ودونوا بالأحمر سيرة محْوكَ، وبالرماديّ صورة تلاشيك. لكن فتاة اسمها من اشتقاق النور، كانت تطلُّ عليك من سطح الأمل. ثم قفزت في خيالك وصارت جناحاً. ولم يعرف الحراسُ كيف صرت أنتَ ورقةً في دفاتر العاشقات، والكلمة التي هجّروك لمنعها، صارت نشيداً في فم الذاهبين الى القُبل. وأنا، حين أقرأ أنك حيٌّ في ضمير الكلام، وحين اسمع أنك نفحةً في همس النايات البعيدة، أقفُ على تلٍ واهتف مثلك: أحبها. منتمياً إلى عرش الخلاص من الحدود الواهية. لا شيء بيني وبين المدى الآن سوى أن أرمي خاتم الوعد في حضنها. ولا شيء يمنعني من أن أهزم الخيول، سوى أن أفرد أجنحتي في مهبّ الأفكار العاتية. متعالياً على الجبال وشموخها الوهمي، ملكاً ما دام في يدي صولجان الحرية، وعلى رأسي تاجها.
أسّس لاقترابك من الورقة. كلما جاورتها آوتكَ في سفرٍ وسيّرت مجراك نحو عذوبة المنتهى. وكلما لثمتها، سقتك حليب المسافات بين الزمن، وأطعمتك سرّ المعاني الصافية. والورقة، إن شئت هي النهرُ إذا قفزت في شلالها. وهي الحائط الأعمى إذا نطحتها بقرنيك النافرين لا بالقلم. جلس الحكيم يوماً على منحدر السؤال وكتب على صخرة: من أنا؟ لكن الذئاب لم تفطن لسؤال الحقيقة هذا، وسرعان ما اختفت كلمة الحكيم وضاع صوتها في عواء الليل. آنذاك كانت الأشجار تُصغي لأسئلة الوجود كما لو أنها بشرٌ مثلنا. ومن برعمٍ صغيرٍ نبتت الورقة أولا، ومن غصنٍ نافر نبت القلم. بعدها تناسلت الكتب ممهورةً بأختام المنتصرين على النسيان. وها أنا مثلهم أكتب اليوم: أحبّها. هي الكلمة التي لو عصرتَ القواميس كلها، لوجدت لبّها. وأظنها تكفي لروي الوجود، وبثّ الفصاحة في جلال معانيه.
الدهر ليس سوى الكلمة. والمكان ليس سوى خلودها. والقلوب التي يرجّها الخفقان بسبب كلمة، هي القلوب التي عرفت طريقها الى الحب، وعرف أصحابها لذة المشي في دروبها.