كان ذلك في الزمن الذي ظننا أنه كانَ. وإذ هو ينفجرُ بخبيئةٍ ويمتدُ بخديعة. زمن كان هو الأمس وإذ به الآن. ونحن ندري كيف تصاغ أزمنة ليست لنا. وعلينا حين يعوي هديرنا أن نؤول إلى نثارٍ أو رماد أو سحب من الهباء! كان ذلك حين اشتدت علينا قبضة الأيدي التي اعتقدنا أنها رخية وحرير. مشتبكة بجذورنا ترامت وراء الذاكرة والنسيان! زمن.. قلنا سيعيننا على الاحتمالات التي تزجج سياجنا، كي نُرى ولا نَرى! تلك هي القبضات الحميمية التي تمترسنا بصلابتها. تلك هي الآن التي تشد علينا فؤوسها كما تشد النواجذ على فريستها. تشد علينا شباكها وتنسدلُ كليل يبزغُ من أقاصي العتم! توشحنا بالترقب، وهو الذي قلنا إنه احتمالاتنا الأكيدة. لكن ها هي الفؤوس تشق سطوحنا وتغوص عميقاً في دم الجذور. نخلة كنا، مرفهة بالعصافير والرطب، باسقة في التيه. نخلة لا تطالها المراقي ولا ينحني شموخها للريح!
مثل وحش يمضغ على مهل فرائسه تجترنا محن هذا الزمان. كأنها حرقة الجمر الذي يندلق في أحشائنا. أو كألسنة الرماح أو اللهب! ها نحن على مشارف التيه والخراب. نستلّ من إبرة السنين أعمارنا فلا نجد في نهايتها عقدة الثبات. ببصر كَليلٍ ننظمُ خيوطنا الواهيات فتضيق إبرة الأيامِ كلما ارتعشت أناملنا وهرول خيط العمر دون عقدته نحو بداياته أو نهاياتنا! طشنا عن مرامينا كما طلقة في يد طفل معفّرٍ بالشقاوة واللعب الجموح. أو كما طلقة في يد العمى! من أين لنا خبز أحلامنا إذا كانت السماء مثقوبة والأرض طوق يباب وخراب؟ أية ضلالة صيّرتنا طريدة نحن الذين نُذرنا للسلام ضد وحوش الطرائد؟
هل نختار عزلتنا؟ بأي جمر نتدفأ إذا كان الصقيعُ قلبَ جمرتنا؟
بأي وهجٍ نبعث إلى السماء بنشيجنا؟ ربما علينا أن نهدأ، أن نتكئ على سياج يعلو هاماتنا. أن نسحب أطرافنا للخفاء كسلحفاة حكيمة. أن نجترّ فداحتنا في حزن وأسى. أن يكون المدى سقف خيمتنا وتكون أحلام الأقاصي هي العتبات. من إذن غيرنا في التيه أو في الهاوية ينهض بنشيد السلام والأمان؟
أية خرافة واختراقٍ للمنطق يشطُّ بنا كي لا ننهض كانبجاس النور من عتمة الوقائع، ونتئد بحكمة ونبتكر النضوج؟ لكن كيف بحنجرة مليئة بالشظايا نهتفُ، يا لطفولتنا وشيخوخة اللحظة؟
أف من قسوة هذا الزمان. وأف من الدمار الذي أحلنا إليه.
إيهٍ أيتها النقطة التي تفصل وجودي بين برزخين: فرار وقرار! لكني سأنتظر كالعناقيد التي تلملم فتنتها في الخريف! وإيهٍ أيتها اللغة التي ترصد الغامض في الخفايا وتخفي الوضوح!