الحافلة التي كانت تقل الفوج السياحي، التحقت بها على عجل، وفي ظل الربكة والسرعة، والاتكال على آخر لحظة، لم أسأل عن حال الترجمة، معتقداً أنها تشبه ما في أوروبا، جهاز فيه أربع لغات على الأقل، ولابد من أن نتصارع مع واحدة على الأقل، وتتيسر الأمور، لكن الحافلة التي أقلتني إلى مدينة «بلغار» التاريخية، وهي أقدم مدن تتارستان، وتعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، والطريق إليها يستغرق ثلاث ساعات وتزيد، كانت خالية حتى من راديو، وما أن انطلقت حتى أسقط في يدي، فإذا بي وسط مجموعة من المتقاعدين منذ زمن بعيد، بحيث تستطيع القول إن الواحد والواحدة منهم قد قضى ما يزيد على الأربعين عاماً في مصالح حكومية، ومؤسسات قطاع عام غير ذات مردود مالي مجزٍ، وجميعهم يتكلمون الروسية التي تخوّف نبرة حروفها، وإيقاعها الحديدي، بحيث أن من مثلي كان عاجزاً عن تفنيد مدى رضاهم من سخطهم، من حقيقة ترحيبهم بي وسط مجموعتهم السياحية!
كنت الوحيد المتخشب الذي لم أكن أميز ما يقولون، إلا إذا بانت أسنان الذهب التي تحشو جانباً كبيراً من الفك العلوي أو رفع الروسي كأسه الأبيض الصغير في عز القائلة، فأيقنت أنهم من الرفاق المحاربين أو الحرس القديم، فتشت معتقداً أن هناك سماعات للترجمة إلى لغات أخرى أدبر عمري بها طوال هذا النهار، وما أسرع ما تسمع كلمة لا «نيَتّ» عند الروس! المشكلة أن «شوابي وعيايزي» يرقدون بعد ما يسير الباص قليلاً، ويظل يتهادى جالباً لهم سِنِة من النوم لذيذة بعد ذلك الإفطار الصباحي، وأظل أنا الوحيد الصاحي والمضطر لسماع حديث المرشدة السياحية بالروسية التي أعتقد أن الألمانية على صعوبتها وتخشبها أسهل منها، لم تتوقف تلك المرشدة السياحية التي أعتقد أنها اشتغلت في بداية حياتها مدرسة تاريخ للصفوف الإعدادية، وبعد أن ودعت طلابها غير النجباء، ودخل العمل الخاص المعسكرات الشرقية الصلدة، قبلت بوظيفة غير مقتنعة بها تماماً، واعتقدت نهارها أنها ربما تريد أن تنتقم مني باعتباري أوحي لها أني من منطقة رأسمالية مغايرة، وهذا يخالف معتقدها القديم الذي دافعت عنه ببسالة في سنوات طويلة منصرمة أو أني أذكّرها بأحد طلابها المتعثرين، والذي لا يفرّق بين بروسيا وروسيا! مضى ذاك النهار وأنا شبه صائم عن القول والطعام، وتعبت أطرافي من الإشارة، محاولاً التودد لأحدهم، عله يشفق عليّ كأخيه الصغير أو لواحدة أذكرها بعاطفة الأمومة التي نسيتها، لكن هل تدركون كم هو صعب الواحد من أولئك الذين يودعون السبعين، وإثر تقاعد غير مجزٍ، كيف تكون رؤوسهم صلبة، ومزاجهم قاس، ولا يقبلون بصداقة أحد خلال ساعات من النهار فقط؟! ونكمل غداً حديثاً آخر من أحاديث الحافلات السياحية..