هل يرتبط الحب بالمكان؟ هل المكان الذي عشت فيه تفاصيل حياة، هو الحب؟ هل له عمر، له جسد، له لغة وأفعال؟
«لقد كنا هنا».. هذه الجملة تنتاب روحك عندما تجرك قدماك أو مقود السيارة إلى مكان له وقع خاص، أو تسرح في رأسك الذكريات بكل وجد عنه؛ «لقد كنا هنا» ربما تشد عودك المتداعي في دهاليز الزمن، في براحة الحياة، حيث التفاصيل التي لا تموت، تغفو أحياناً ولكنها تعود لتحضر بمجرد أن يجري الماء وينساب في جذورها وينسل في العروق.
هناك، قرب أيامك الفاتنة ارتوت روحك وتباركت شرايين قلبك، هناك عندما كان قليلاً الكلام وكثيراً وعميقاً هو الحب المتدفق كنبع أرضٍ بكر، كشلال ينحدر من أعلى الجبال؛ من الارتفاعات الشاهقة.. هناك، تتشبث الخيال بك وتسرح حد القمم، حد الغيوم وقرب ضوء القمر وهو ينير وجهين رسم عليهما الحب كل كلمات الوجد وجلال الصمت في حضرة كل الأشواق.
هناك، كان وجهك صافياً ودقات قلبك تُسمع لحناً عظيماً يسترسل في الروح؛ كانت الأذن تلتقط حروفاً ماسية تنتشي بها نسائم الليل؛ تُصلح الأوجاع وترحل الطيور والخيول والأسود والنمور والأفيال، تذيع نبأ عشق يغسل قلوب البشر، نبأ عاشقين ينقذ من الخراب القديم الذي لوّث الحياة وسمم العقول والأجساد والأرواح، نبأ عظيم لقلبين التقيا تحت هطول مطر كثيف وهواء بارد، وقررا أن يمضيا بلا مظلات بلا حواجز تطفئ توهج الكهرباء في الرأس.. كان وجودك هناك سلاماً ومحبة ونقاء وصفاء للقلب والنفس، وجود رفع الشفافية عالياً، وتصاعد كأشجار الغابات، كالسنديان وفضاء النسور.
في هكذا حب، لا يعود المكان مثيراً للذكريات فقط، بل يكتسي جلالاً خاصاً يؤثر على كل المشاعر بمجرد أن تقع عليه العين أو يمر به الخيال في لحظة سرحان عظيمة.
يكون المكان بكل أطلاله منبعاً للنور، فلا تعود معالمه هرمة؛ وساحاته تفيض بالأخضر، جدرانه برّاقة كما كانت، حيث بقي شيء من قلوبنا المحبة ترعاه وتشع كلما أصبحنا في حضرته.
هو المكان أيضا يغمره الحنين إلينا، يشتاقنا وتنتابه الفرحة كلما عبرت أطيافنا بقربه، يحس بأنفاسنا، كلماتنا، لمساتنا، ومشاعرنا في لحظات الصفاء العالي، يحس بكل أحاسيسنا.
هو المكان المتوّج بسيرة الحب، يبقى وإن زالت كل المعالم، يحضر فينا حد الوجد الذي يتمتم بالتنهدات: لقد كنّا هنا.