نميل نحن البشر إلى تصنيف بعضنا بعضاً، ويبدو أن هذه «الملكة» اكتسبناها مع تراكم خبراتنا عبر أزمنة طويلة، فتوارثناها بلا أي إرادة. فكأن لعقولنا مكتبة خاصة تقوم «آلياً» بترتيب الناس على رفوفها في تراتبية محكومة وفي زمن قياسي، بل لا يتعدى بضع ثوانٍ. فقد سمعت مؤخراً أن أحدهم قرأ دراسة تفيد بأننا لا نحتاج لأكثر من 19 ثانية لنحكم على الآخرين، إما بالقبول أو الرفض! يبدو الأمر في غاية القسوة.. والسذاجة أيضاً؛ إذ كيف لنا أن نحكم على تجربة إنسانية كاملة خلال 19 ثانية، وهو الوقت المُستغرق فقط لقراءة نصف الفقرة السابقة!
نعرف جميعاً أن الانتماء إلى الجماعة مطلب أصيل وأساسي في حاجاتنا الإنسانية، فلا يمكن للمرء أن يستقر نفسياً وهو مضطهد مجتمعياً أو غير مقبول أو حتى مُهمّش، ولهذا فجميعنا نسعى بأن نكون محط إعجاب الآخرين، ومحط رعايتهم، وفي أقل الأحوال، أن يلاحظ من حولنا حضورنا. ولأننا ندرك أننا كذلك، يفني الكثيرون منا جهداً ووقتاً ومالاً ليحصل على رضا الآخرين، وذلك عبر امتلاك أدوات مادية صرفة، يمكن أن يلحظها الآخرون بسرعة وسهولة، فالوقت قصير جداً، وفرصنا محدودة للغاية في الحصول على تركيزهم في وسط مليء بالمنافسين!
ولكن.. من هم أصحاب القرار في اعتبارنا مرضيين أم منبوذين؟ ومن منحهم هذا الحق أساساً؟! إليكم الكارثة.. إنهم نحن. أنا وأنت، وزملاؤنا وجيراننا وأصدقاؤنا في الحياة، إنه مجموع كلنا. نحن من نسمح للآخرين بتقييمنا، كوننا جزءاً من الآخرين الذين يقيّمون غيرنا. نحن من نصبغ صفة البداهة والطبيعية على تصنيفاتنا للآخرين بكل صلف، ولذا كان استحقاقاً علينا أن ننال نفس الحكم من الآخرين.
للأسف، هذا هو الواقع، ولكن كونه واقعاً لا يعني بالضرورة أنه الوضع الأمثل. إن لعقولنا ملكات أخرى أعلى مرتبة من تصنيف الناس آلياً، ومنها منح الناس فرصاً لإثبات ما يستحقونه من مكانة حقيقية بناء على أخلاقهم وعلمهم وكفاءتهم وهي معايير أعمق وأكثر حقيقة وبقاءً من مكانتهم الاجتماعية المترتبة على ممتلكاتهم المادية. وحتى ذلك الوقت، علينا أن نحفظ للجميع مكانتهم الإنسانية التي نتشارك فيها سوياً والتي يستحقونها.. من الثانية الأولى.