لم تنته رحلتنا في المسارات المائية، بل بدأت والمراكب الخشبية تتموج، عبر بحيرات تستشف منها الهدوء، وطوق الجبال يحتضنها بإحكام، لولا المنافذ القليلة، التي تفسح للمسارات طريقها نحو المساءات، لنرتشف على عزف الماء قهوتنا، ووسط الظلال تستحث المراكب اللهفة نحو الأمان والسلام، فمن قال بأن تخوم الطبيعة لا تنشد الحلم، وبأنها فواصل في روح كل حالم، وبأن زهوها يوحي بروح الحياة؟ قطرات المطر تزف نشيد النسمات بمنتهى الدفء، وحين تمطر بشدة وغزارة، تغسل نوافذ المراكب، وحين تكف قليلا، تحدث أعجوبة في فضاء داكن، قطرات دافئة، تقبّل الحاضنات الراسيات، تخطف النظر، فلا شيء يخبو هنا، حين تخضل أطياف الجنان، أو حين تكفهر السماء وتجتاحها خفقات الأمد، أو حين تهدأ في الدجى حزينة على مأساة اغترابها وصمتها الليلي المنفرد.
من تخوم «بافاريا» ومن «بريجتسغادن» التاريخية انطلقت المراكب في تموج يكتظ بالسياح من كل حدب وصوب، سماتهم تعلوها الدهشة، وهمساتهم تطل شقية، وتلوذ بابتساماتهم المسارات البعيدة. فمنذ سنوات طوال، يقال إن الجيوش جهّزت تلك المسارات، أي منذ عبر «هتلر» وجنوده المكان، لكنها راحت تغسل أحزانها وتسترد سحرها، وتستقطب الألوف المؤلفة من البشر، لتستمتع بروح الطبيعة.
لم يتوقف المركب، إلا ليخرج قائده من قمرة القيادة، ويقف على حافة المركب لينفخ في البوق عازفا على لحن «مارشاليا» بين الجبال الساكنة، فترد الجبال الصدى حفاوة، أو كأنها ترد الصوت بأجمل منه، فتبدو وكأنها كائن خيالي في كنفه تكمن روحها الصامتة، روح لا تعبث بالوجود ولا ترد إلا إذا نبشتها الأصوات وهزّت وترها.
بعد الانتهاء من عزف قائد المركب، صفقنا له، بينما دهشة المكان لازالت تعزف على فطرتها، ومساعد القائد يشق طريقه بيننا، يفرد قبعة قديمة للتبرع للعازف، لكي يستمر في عزفه المبهج، ولتستمر المراكب الصغيرة في ارتحالها، تسقطنا أمام المرافئ، مخبأ آخر يحتضننا، ومقاهيها الصغيرة تجرنا إليها، يخبرنا النادل، بموعد آخر المراكب الراحلة، فيغادر الكل، قبيل غروب الشمس، ومعهم العاملون بالمطاعم، ولا يرحل آخر المراكب إلا وقد غادر الجمع المرافئ الصغيرة، لتنعم البحيرات بهدوئها المعتاد وصمتها الليلي، بينما تتلاطم أحلامها، تنتظر زائريها وعشاقها المتيمين بطبيعتها. هكذا يطوي الليل صمتها، وهي على الحد الأخير من «بافاريا» القريبة من جبال «سلاسبرغ».. فنلوذ بالمكان لكي نكتب تجربة متوهجة بالثقافة الجغرافية، أمام تجليات الأساطير والتاريخ.