لم تعرف البشرية مفهوم التسامح إلا مع الأديان التوحيدية التي شكلت المنظومة الأوسع لاستيعاب البشر من مختلف الأعراق. وكبر هذا المفهوم تحت مظلة الدين الإسلامي الذي خلخل الأعراف الطبقية ووحد بين الجميع على أساس التقوى. وعندما أعلنت الإمارات عن إنشاء وزارة للتسامح، وطرحت برامج عمل ومهرجانات لتعزيز هذه القيمة، ثم توجت كل هذه الجهود بإعلان العام 2019 عاماً للتسامح، إنما كانت تستمد من الإسلام عمقه الروحي والفكري التنويري. ولدينا في تراثنا العربي والإسلامي أمثلة لا تُعد ولا تُـحصى على سماحة هذا النهج الذي دفع بالحضارة العربية إلى مراتب عليا من السمو الثقافي والعلمي. ومن دون التسامح، لا يمكن الحديث عن التنوير أو حتى وجود الثقافة. ومن دون التسامح، تنغلق المجتمعات وينال منها هلاكها.
والتسامح كقيمة أخلاقية لا يرتبط بالدين فقط. فهو في عمقه الجوهري نزعة إنسانية تتجاوز الأنانية من أجل التعايش الجميل بين البشر. والإنسان الذي يصل إلى مرتبة التسامح، هو الشخص الذي استطاع أن يطهّر قلبه وجوارحه من مشاعر الغضب والكراهية والعنف والغيرة والحقد الدفين. أيضاً، يُدرك العارفون أن الإنسان يجب عليه أولاً أن يسامح نفسه. كلنا معرضون لارتكاب الأخطاء والتجاوزات، ربما بسبب الغفلة أحياناً، وأحياناً أخرى بسبب الجهل أو الخوف. لكن طريق التسامح يبدأ أولا بمسامحة الذات والصفح عنها وغفران زلاتها الكثيرة. كل لومٍ توجهه إلى ذاتك يصبح عائقاً ويحيد بك عن الطريق. كل لحظة تؤنب فيها نفسك على أحداث جرت في الماضي، تُعمي عيونك عن رؤية ما يبشّر به المستقبل. فلا تحجب الضوء بيدك وافتح صدرك دائماً لأشعة الشمس كلما أشرق الصبحُ من جديد.
بعد أن تسامح ذاتك، ينبغي لك أن تُصفح عن الآخرين، وأن تتخلى بشكلٍ مطلق عن التمسّك بنقدهم والتحامل عليهم لأسباب حدثت في الماضي. هذه المشاعر المريضة ستظل تؤلمك طالما بقيت تحملها في عقلك وفي قلبك. دعها تذهب بسلام، اصفح وتسامح واغتسل في مياه المحبة التي تستوعب الجميع. هكذا نصبح أنقياء من الداخل ونتجرد من سموم المشاعر السيئة. وهكذا نكبرُ لنصبح لائقين بالقيمة العظيمة التي اسمها التسامح. ولائقين بالوطن الذي نفدي أرضه ونعيش في سلام مع كل من فيه. ما أجمل أن تكبر كلمة الحب وتصير أغنية على أفواه الجميع.