من المفترض أن قدرتنا على كشف حالات عدم الصدق تزداد كلما كبرنا وزادت خبراتنا ومصادر معلوماتنا؛ غير أن الواقع الذي نعيشه في هذا الوقت - والذي فيه من المعطيات ما لم يعرفها أي جيل سابق- يذهب بنا إلى مناطق أخرى ويجعل من أهل هذا الزمان الأكثر سذاجة من بين كل الأجيال السابقة، رغم ما توفر لنا من مقدرات وإمكانات معلوماتية تجنبنا السقوط في حبائل الخداع التي أصبحت طويلة وطويلة جداً. صحيح أن تاريخ البشرية حافلٌ بكذّابين أفّاكين تمكنوا من نسج قصص وهمية، وحصلوا بسببها على أرباح لا يستحقونها؛ غير أن ما نشهده الآن يفوق كل ما كان، فقد تعدت خسائره الجانب المادي، لتطال منظومتنا الاجتماعية التي من المفترض أنها قائمة على «الثقة الضمنية» التي تستند إليها علاقاتنا وبالتالي تصرفاتنا.
يقول «تيم ليفين» عالم النفس لدى جامعة «ألاباما» الأميركية: «إننا نحصل على الكثير من المنافع بسبب تصديقنا الآخرين». وهذا صحيح تماماً، فنحن على سبيل المثال عندما نفقد الطريق نتوجه لسؤال أول من نقابله عن الوجهة السليمة، وعادة لا نتردد في تصديقه؛ وقس على ذلك كل الأشخاص الذين نقابلهم في مجالات الحياة، الأمر الذي يجب أن يستمر لنعيش حياة طبيعية آمنة، وهذا ما نرغب به بشدة وليس لدينا أي استعداد للاستغناء عنه، على الرغم من تحول الكذب إلى سلعة مجانية وفيرة، وأصبح «سوء الظن» سمة يجب أن يتسلح بها الإنسان «المتوازن»، وأنا هنا لا أتحدث عن الإنسان الذكي، بل عن الإنسان العادي الذي يمكن أن يكمل مسيرة حياته بصورة طبيعية ويساهم بشكل معقول في بناء مجتمعه؛ وهو ما يعد من الصعوبة بمكان في ظل نظامنا الاجتماعي «الجديد» القائم على وسائل التواصل الإلكترونية.
المثير فعلاً انتقال ما يحدث في هذه البيئة الافتراضية إلى واقعنا اليومي المعاش، فأصبح واقعنا يتأثر بشكل كبير به مداً وجزراً، سواء في شكل علاقاتنا على هذه المنصات، أو في ما يرد إلينا عبرها. ومع كثافة العلاقات وتشابكها وسرعة تدفق المعلومات وتعدد مصادرها، أصبحنا نتغير دون أن ندرك أننا نفقد بوصلتنا الطبيعية في تمييز الصدق من الكذب في واقعنا المعاش، وأصبحت دوائر علاقاتنا الحقيقية مرتبطة بشدة بمظاهر الارتباط الموجودة على حساباتنا الإلكترونية مؤثرة عليها سلباً أو إيجاباً دون مراعاة حقيقتها أو حتى زيفها.