منذ الطفولة والصبا والشباب والكهولة، تتردد على أسماعنا حكمة تقول: «القناعة كنز لا يفنى». لكن هذا القول لم نسمعه إلا على لسان الفقراء. ولا أذكر أبداً أنني سمعته يتردد على لسان الأغنياء والميسورين. هذه الحكمة المضللة التي توحي بالخضوع لوضع لا يليق بذكاء الإنسان وقدراته الكامنة في هذا الدماغ الذي تميز به على سائر الكائنات في الطبيعة، ولا بطموحه وحقه في التمتع بحياة مرفهة ووفيرة العيش، استخدمت كسوط جلاد خفي ضد جموع من الناس لمصلحة فئة منهم. ومن المضحك المحزن أن جموع المعوزين يرددونها فيما بينهم، فيما يشبه المواساة، ويلقنونها لأبنائهم وأحفادهم كمفهوم أخلاقي يحرسهم من الطمع.
ونحن نعرف أن الطمع ليس كالطموح. فالطموح كبرياء وفخر وتطلع إلى الأعلى، والطمع من تطلع إلى ما يملكه غيره شهوة وحسداً.
وبالعودة إلى الحكمة المأثورة التي رأيت أنها تضمر في حقيقتها معنى أن «القناعة فقر لا يفنى» عدت إلى معاجم اللغة العربية، فوجدت ما يدعم قولي. ففي لسان العرب: «القُنُوعُ والقَناعةُ: الرِّضا بالقِسْمِ. قال لبيد: فمنْهُمْ سَعِيدٌ آخِذٌ بنَصِيبِه، ومنهمْ شَقِيٌّ بالمَعِيشةِ قانِعُ. وفي حديث آخر: القَناعةُ كَنْزٌ لا يَنْفَدُ لأَنّ الإِنْفاقَ منها لا يَنْقَطِع، فكلَّما تعذر على الإنسان الحصول على ما يتمنى قنع ورضي بما لديه. ويسمى قانعاً». وفي معجم لسان العرب: «القانِعُ خادِمُ القومِ وأَجِيرُهم. والقُنُوعُ هو السؤالُ، والتَّذَلُّلُ، والرِضَى بالقِسْمِ». وفي الصحاح في اللغة: «قال الفراء: القَنوع هو الذي يسألك فما أعطيته قَبِلهُ. والقَناعَةُ: الرِضا بالقَسْمِ. وقَنِع يقنع قَناعَةً، فهو قانع وقَنوع بالشيء، أي أرضاه».
وأذكر أيضاً أن جدتي كانت تردد على مسمعنا: «من أكل غداءه وقلق على عشائهِ فهو من القوم الكافرين». هكذا إذن علينا أن نقنع ونرضى ونخضع ونطيع ونبقى بفضل قناعتنا في كنز من «الفقر لا يفنى». ونبقى في موقع الساكن والخادم للقوم وأجيرهم. وإذا ما تساءلنا والسؤال سيّد المعرفة ومفتاح التطور من هم القوم الذين علينا أن نبقى خدامهم وأجراءهم تحت قناع الرضا وروح القانع؟ سندرك أنهم فئة برمجت عقولنا بأقوال ادّعت أنها الحكمة الموروثة، وأن فيها راحة البال لنا رغم شظف العيش ومسكنة الطموح. لكن السؤال سيعيد طرح نفسه: ألا يكمن في حِكَمة كهذه شلل يصيب طاقة الدماغ بالضمور، وتوقد الروح بالخمود، وانطلاقة الخيال بالخمول؟