في زيارة إلى باريس قبل عامين، مع فريق من أدبائنا وكتابنا، وبمعية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وبعد الانتهاء من جولة في معرض باريس للكتاب، فكّرت في الذهاب لرؤية نهر السين، وهناك كانت المفاجأة، حيث على سور النهر قرأت عبارة (نحن عيال زايد)، هذه الكلمات البسيطة، أدخلتني في حياض الأسئلة الكبرى.
فمن هذا الشخص، أو من هم الأشخاص الذين وصلوا إلى حافة القارة الأوروبية، ليحملوا هذا الاسم الكبير، لينقشوا حروفه على جدار السين؟ وكيف يخطر على بال الناس الذين جاؤوا للسياحة، أو التجارة، أو في مهمة عمل، وينسون كل تبعات السفر الطويل ويتذكرون اسم زايد؟ توقفت، وتأمّلت، وقرأت العبارة مرات ومرات، لعلّي أجد ما يدلني على بديهة هذه الكلمات. بعد برهة، قفزت إلى ذهني صورة الراحل العظيم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وهو في كل مواقع الحياة، يضفي على القلوب هالته، ويطوق الوجدان الإماراتي بأجنحة حبه وعطفه ولطفه، وشفافية تعاطيه مع الناس جميعاً، وحيوية تعامله مع الصغير والكبير، وهو يزرع في أفئدة الناس معاني العلاقات السامية، وقيم التآلف والمودة، والتآزر والتضامن. ولا أحد منا لا يذكر كلماته وهو يعلن للإعلام أنه لا يعلم عن أن مواطناً في الإمارات يسكن بالإيجار. هذه الكلمات تكفي لأن تكون أيقونة في ضمير كل حي، وأن تكون أسطورة حياة، يتلقاها كل إنسان يحمل في داخل صدره قلباً ينبض بالإيمان، وحب الآخر من دون شروط أو قوانين وضعية. تذكرت كلمات زايد الخير، طيب الله ثراه، وأنا أقرأ الكلمات التي رسمت على سور نهر السين، وأيقنت أن إرث زايد قانون وجودي لا يبلى، ولا يتغير، ولا تشوبه شائبة، مهما تغيرت الأزمان ودارت الأيام، لأنه إرث جاء من وحي الفطرة، ومن عفوية روح تربت على التلقائية من دون تسييس، أو تكريس معانٍ لها أهداف ظاهرة وأخرى باطنة. هكذا أحب الناس زايد، وهكذا نقشت صورته في أذهانهم، وهكذا بقيت ترافقهم في حلهم وترحالهم، فهو الساكن في القلوب مثلما تسكن الدماء في الشرايين، وهو المتحد مع الآخر، والمندمج في ذاكرته، ولا تخفي السنون ما بناه زايد، لأنه بناء من يد أعطت وما منّت، وسخت وما كلّت، وتفانت وما تردّدت، وضحّت وما خشيت لومة لائم في صناعة الخير، ولذلك يبقى إرث زايد الناموس، والقاموس، والفانوس، والأساس، والمتراس.. يبقى إرث زايد الحب الذي لا يجف معينه، ولا تكف مُزْنُه.