لِمَ الأشياء الجميلة تبكينا أحياناً، ليس من حزن، ولكن لأنها تمس الروح؟ تماماً مثلما تشهد أحداً يحيي قيمة إنسانية وأخلاقية، كأن يعضد ضعيفاً أو يرد ظالماً أو ينصر مغلوباً، هي أشياء تبكي النفس، لأنها تتجاوز الخارج إلى الداخل، حيث يسكن الشرف والصدق والنُبل، فتفعل فعلها، لأشد ما توجع حالات نكران الجميل في الحياة، والتي تجمد ماء العين، وتُحجّر اللسان، وتثقل القلب وتدميه، تخطر على البال قصة الضبعة «أم عامر»، وما فعلته بمجيرها الأعرابي الذي آواها، وبرّد عطشها، وأمّن جزعها، وأشبع بطنها، لكنها، ولأن الغدر ساكن في نفسها، متجذر في داخلها، لا تبدله المواقف الطيبة، ولا فعل الخير، ولا إتيان الإحسان، سكنت «أم عامر» حتى تمكنت، فبطشت بوليد الأعرابي، وبقرت بطنه، وأدمعت عين المحسن لها، وفطرت قلبه، ولم تقتله، ليظل يتعذب «بجرم» فعل الخير، لأنها كانت تريد قتل الإحسان والمعروف فيه، وتجعل مكانهما حجراً بثقل الرصاص ولونه!
وهناك أعرابي آخر قادته الصحراء ومتاهتها إلى شبح آدمي منقطع به الحال، يرهقه العطش، وتحرقه الشمس، وهو إلى زوال أكيد، وحتف محتوم، فأبت عليه نخوته العربية، ونداء كان يرفع عمائم العرب وتيجانها، وهو إغاثة الملهوف، فنزل عن ركبه، وقدم له قربة الماء، وزوادة الطعام، فشاركه الخبز، وقاسمه الملح، وأردفه على ظهر راحلته، وحين جُنّ الليل، فزّ الشبح، وفزّ الشيطان معه، تحدثه نفسه الأمّارة بالسوء، بعدما شرب وشبع واستراح، قاصداً الأعرابي يريد سرقة ماله وسلاحه وحلاله، ففزع الأعرابي، راجياً، ومتوسلاً أن لا يريق دمه، ليس لأن لديه أطفالاً، ولا كثرة المال، ولا حرمة الدار، ولا لأنه الخوف والجزع من الموت، ولكن لكي لا ينعدم المعروف والخير بين الناس، وتقول العرب: قتلت فلان رجولته وشهامته ومروءته وخيره وإحسانه، فأسقط في يد الشبح، وأخرس النفس الأمّارة بالسوء، وألجم الشيطان المرافق، فقال: ليتك ما أحييتني من العطش وحرقة الشمس والجوع، لتميتني بكلام أثقل من الرواسي الصم، ذي الأوتاد!
لِمَ نكران الجميل يجعل من العين تذرف دمعها الغزير، بمقدار دفقها على فقدان العزيز؟ لِمَ وحدها مقابلة الإحسان بالسوء تعمل عمل الحز بالسكين الثلم؟ لِمَ تشعر بعبء الرحى الثقال على الصدر؟ حين تشهد من يريد أن يقتل الخير فيك، ومن يريد أن يطفئ شرارة فعل الإحسان فيك، ومن يريد أن تبدل الحب الساكن في النفس نحو السوء، وأنت لا تريد، ولا تقدر!
الإنسان وما جُبل عليه، وما اكتسبت نفسه أو كسبت، لا نقدر أن نمحي الأذى من دواخله، وليت كان طعان حرابه، في صدور الناس التي تحتمل، ولا ضير أن يبكي الإنسان نفسه، لكن قتل القيم، ومنظومة الأخلاق في دواخلهم، تجعلهم يبكون، ويرجون من يبكي عليهم.. وتلك هي والله قاصمة الظهر، وطامّة الدهر!