سأنقش الأحرف هذه، وأدفق القصائد في وهج النهار. كأنها المطر الغزير، أو ما فاضت به الأفكار في غموض الليل وسطوة الأحلام. أو لعلها ما تشتهي النفس في خفائها والعقل في خزائن النسيان. فلا قصد لي من للكتابة، سوى الكتابة. كما لا قصد للعطر في الورد والفل، ولا للملح في البحار. ولا قصد لفتنة الزلال في الأنهار. إذن ما القصد من وجودنا في زمن يضج بالبشر الوحوش، وتمتلئ أيامنا بالوحشة والأحزان وسطوة الخراب؟ لا ليس هذا ما نظن. نريد أن نظن أننا نستطيع أن نستنبت الحياة من بذرة الحطام، ونجعل للملح والعطر والزلال حكمة. ونسكب الحكمة في أودية الحياة راسخة، كأنها جذور الطلع في نسغ الكلام!
هل ابتعدت عن غايتي أم أنني اقتربت؟ هل قلت ما قالوا أم أنني ابتكرت؟ ما الذي يوهمني أو يدلني أو يضلني، أو يعصمني إذا ارتكبت؟ لا شيء ولا أحد، ولا غواية الحروف إن بهتت هشاشة أو ثقلت معانيها، كجوهرة الذهب. القول هذا لي، وللناس حين تقرؤه أن تتعظ أو تمتعض أو تنسى قهوتها لتحترق في سطوة اللهب! الحكمة تصير حيناً كتبن الهراء، أو سنبلة، أو كعطر الورد في نقوش الكلام. كلامنا كالأحلام المعتقة في أقبية الأيام. لكننا مهما تطاولنا لن نبلغ القصد بها، ولن ننتشي بها فرحاً، ولن توقظنا من غفوة الأحزان في الأحلام. فنحن في العمى حكمة الدهور، وفي الضلال مبتدأ ومنتهى، وراسخ في أعمق الجذور. ربما أن القول ليس لي، ولا الكتابة حرفتي، لكنها الأفكار تلدغني مثل عقرب، أو تطن في رأسي كالذبابة. تقتحم الهدوء مرة ومرة تهشم الرتابة. من فكرة صغيرة تصير كبذرة تستنبت حدائق المعاني. أو كقطرة من السحاب تنبئ بالمطر. أو كحجر في عثرة الطريق، ترتفع الجدران منه عالياً وتبتني القصور والبيوت للأمان. هكذا تلتمع الأفكار كبرق خاطف يأمرني مرة أن أنقش ضوءه قصيدة. ومرة يحيلني كموقد بلا لهب!
أعرف أن الكتابة، مليكتي وصولجان سلطتي. فكل الحروف التي انقشها قد تنفرط لكن جميعها تصير حاشيتي. حشد من الأفكار والمعاني توقظني من غفوتي، فلا أنام مطمئنة كأن شوكاً في وسادتي. قد أنقش القصائد في الأحلام، وحين يقظتي تضيع في الهباء. أتوه مرة عن غايتي، ومرة أنقشها كما الأزميل في ضراوة الرخام! ورغم أنني لا أتكئ على أعمدة ولا أحسن السباحة في البحور. لكنني أدرك أن الوزن للمعنى إذا ما عزف بشغف المبدع على وتر الكلام!.