في الحياة الزاهرة متعة جميلة، ربما نشعر بها في آناء مختلفة من الزمن، وربما تخفت عنا، كل حسب مقدرته الحياتية والذاتية والنفسية، وحسب رؤيته للحياة وتصورها، فمنها متع ثقافية تستدرج الإنسان إلى عالمها المنفرد، بدءاً من الإبداع الذي يحقق النموذج النفسي للإنسان في السمو، ويطهره من شوائب وإرهاصات يومية، هي حالات إبداعية لها وقعها في الروح، لذا ليس كل إنسان لديه هذه الموهبة وإن تقمصها البعض ولبس حلتها، إلا أنه لا يشعر بها كالمبدع نفسه، كالكاتب الذي يرسم كلماته بمعنى خفي وكأن في الكلمات الأدبية نبوءة تتجدد في كل حرف، يسطر بعدها الفكري والزمني، بينما اللذة تلك تنسج فصولها وسعتها الفكرية بين الكاتب وقرائه، وبالمنهجية نفسها يشعر الفنان مع ذاته المبدعة، وسماته تظهر من الواقع، بل يعرف الفنان من سماته الفنية، التي تتقمص ملامحه.
وهنا أود أن أتبع هذا بحكاية قصيرة؛ كنا ذات مرة، أنا وصديقي الفنان، بمعرض للكتاب بباريس، واستوقفتنا لوحة جميلة، وبدأ صديقي يسأل العارض عن الأعمال الفنية المعروضة، ولم نرحل من هناك حتى أدرك العارض بأن صديقي فنان محترف فعرض عليه أن يرسم لوحة أمام الجمهور، فهذا استدلال بسيط على الموهبة وسماتها الأسمى ونموذجيتها حين تظهر في ملامح المبدع.
وهناك متعة جميلة تفوق الوصف ألا وهي القراءة، وبعيدا عن المنهجية الحديثة للقراءة السريعة وسطوة الوقت على الإنسان ليتجرد من لذاته الثقافية، فالقراءة لها طقوسها وأوقاتها ولها حضورها في قاموس الوقت، وانجذابها لا يعلمه إلا من انتهج روحا لها في ذاته، وفي مساره ومكونه الحياتي، فلذة القراءة في الصمت والهدوء أو سماع الموسيقى المتموجة في النفس، ولذتها في استخراج الكلمات ذات الوقع والمؤثرة في الحوارات مع الآخر.
ليس هناك أقدر من الإنسان في خلق المتعة اللازمة لنفسه، فالعودة إلى التاريخ وقصصه الجميلة، ومنها استحضار الحياة من جديد، وكأنك ترى الوجوه حين تقرأها، وحين تتخاطب مع محيطها الرفيع، أو ما تحقق من التعاليم الإنسانية التي كتبت في السابق وتأثيرها من منظور العالم الذي يحمل شيئا من رائحة الحياة الماضية ويحمل أحلاما بشرية قدر لها أن تمتع الإنسانية، ويرحل عنها أناسها بعيدا.
فما يرى من تظاهرات هي ليست ثورات على الكامن من الصعاب وحسب، هي خروج من المقت المرير، والتحجر الفكري والتصلب الزمني، هي ثورة الوعي من أجل المتعة الحياتية الثقافية والبحث عن الخلاص من أجل الصورة النزيهة للحياة، والبحث عن كلمة الحق التي هي كامنة في النفوس ومثبتة في التعاليم الحياتية.