ما تفيض به القلوب من تمزق داخلي، هو ما يجعل الصدور ضيقة، والدروب متفرقة، والنوايا محترقة، والعقول مخترقة، والنفوس ممزقة، والأرواح غارقة في الأنانية إلى حد الاختناق. ما يحدث بين أي متحاورين من صراع الديكة، هو نتيجة لانغلاق الرئة، وعدم القدرة على التنفس بشكل طبيعي، مما يصعب الأخذ بأسباب الحوار البناء، ويعسر التواصل بين اثنين، أصبح كل منهما يعاني من صعوبة في جلب الهواء النقي إلى القفص الصدري، وبالتالي يتحول الحوار البناء إلى خوار وعناء وتصير الكلمات أحجاراً تقذف في وجه المحاور الآخر.
لا تتسامح القلوب ما دامت تكتنز بكتلة من الصور الخيالية المشوهة عن المحاور، ولا تكتمل لغة الحوار ما دام المحاور يقاسي من لوعة الكبت، وسخط المشاعر تجاه الآخر. لا يستطيع المحاور أن يتفوه بكلمة إلا وتتلوها جمرات، تخرج من موقد اشتعلت في جوفه نيران الكراهية ضد كل من يختلف مع المحاور، وضد كل من يقف عند ضفة أخرى، هي غير الضفة التي يقف عندها المحاور.
اليوم تستعر نيران الخلاف بين هذا وذاك، لأن اللغة السمحة توارت خلف ركام من المؤثرات الساخنة، ولأن العقل اختفى وراء كومة من الرثاثة، فأصبح يغط في هذا الكم الهائل من النفايات، ولا يرى أمامه سوى الألوان القاتمة، ولا يرى غير دخان حرائق ماضوية أعمته عن رؤية الحقيقة.
حتى يستطيع الإنسان المعاصر أن يعانق حقيقته، عليه أن ينفض غبار الصور الوهمية، التي رسمها عن الآخر، وأن يجلي عن نفسه لحاء الأشجار الميتة، وأن يزيح عن صدره قشور الأسماك النافقة، وأن يعيد ترتيب الأثاث الداخلي المبعثر، وأن يجدد لحافه القديم، وأن يعمر البيت الذي لعبت فيه عنكبوت الأماكن المهجورة، وأن يهذب أغصان الشجرة التي لم يروها منذ زمن، وأن يروض الوحش الذي سكن غابة القلب، وأن يتخلص من بقايا فناجين القهوة الباردة، وأن يقلم أظافر القطة التي جلست في زاوية من العقل، وأن يمنح نفسه فرصة التأمل لأشياء مهمة في حياته، نسيها بعد أن غاص في الأعماق الضحلة، من بحر الأفكار المسمومة.
التسامح لا ينتج من فراغ، بل هو نتيجة وعي بأهمية التسامح، وضرورة إنتاجه عبر قراءات واعية للواقع، وللعلاقة مع الآخر.