متى يحدث التواصل؟ عندما يختفي الخوف، وتصبح الأرواح مثل النهر الصافي، تحل طيور المحبة على صفحاته، وتتسرب في الماء بوعي الكائنات النبيلة. الخوف أساسه نفسي، ونحن الذين نحيك قماشته في ضمائر الصغار، ليصبح بعد حين من الدهر ملاءة رثة برائحة الغبار، ودخان الآهات الحارقة. نحن الذين نصنع من الخوف آلهة شر تلاحق ظلنا، وتلتصق بأرواحنا مثل بقع الزيت، وتستمر في غثاثتها، حتى تصيبنا بالدوار، وتملأ حلوقنا بالغثيان. نحن الذين نملأ جدران بيوتنا بصور الخوف، وهياكله العظمية المرعبة، ونستمر في تغذيتها بالمصطلحات العجيبة والمريبة، ونحن الذين نعلم أطفالنا الخوف من كل شيء نحن لا نريده، ومن كل شيء نحن نشأنا على كراهيته.
الخوف كائن مجسد في ضمائر الذين فقدوا الوعي بأهمية ألا نخاف من الأوهام، والخوف سلعة رخيصة يصدرها لنا أناس خائفون من اللاشيء، أناس ترجفهم كلمة لا، فتجعلهم مثل أسماك ملقية على الرمل، تجعلهم مثل أرانب مذعورة من صوت خارجي مبهم، لا أحد يعرف من أين مصدره، ومن أي جهة يأتي. لا نستطيع التواصل مع الآخر ونحن نحمل في داخلنا هذه الكتلة من الجحيم، تحرق أوراق وعينا، وتخترق ألبابنا، وتمارس ضدنا، ما يفعله اللهيب في الأخشاب الجافة. الخوف كائن خرافي، نبتت أشواكه منذ أن فتح الإنسان عينيه، ورأى العواصف كيف تطيح الأشجار الواقفة، ثم تطور وكبر في عقولنا، ليصبح خوفاً من كل شيء يعترض طريقنا إلى الأمان، ثم بعد ذلك وبعد تمرين تاريخي طويل، أصبحنا نحن الذين نربي وحش الخوف في بيوتنا، ونزرعه في ضمائر أبنائنا، وليس الخوف من الكوارث الطبيعية، بل تطور الأمر، ليصبح خوفاً من الآخر، واستنفاراً عقلياً ضد آخر، لا يلتقي معنا في أي صنف من صنوف الحياة.
الخوف يخضع لمسألة التعليم والتدريب والعادة، الخوف يأتينا من الخارج، ليسكن داخلنا، ويستقر مثل المرض العضال، والذين يصابون بهذا المرض، هم من بيئات تعلّمت كيف ترسخ مفاهيم الخوف في نفوس الصغار، لتحمي نفسها من الاندمـــاج بالآخــر، ولأسبـاب مختلفة ومتنوعة من النوازع والأهداف والرغبات.
الخائف لا يتواصل، ولا يتنـــاغـم، ولا ينسـجم، لأنه لا يشعر بالأمان في حضــور الآخــــر، وبالتالــــي يظل هكذا عقبة في طريق بيئة صحية، ونظيفة من شوائب الأمراض التاريخية.