من العبء أن تخطو نحو مدينة، فهي تجرّك نحو غموضها، أو تحتضن فيك مقتبل عمرك، وأنت لا مدار لك فيها، ولكنك تشرع نحوها لترى وهج الأسرار وحلم الحياة.
تبادرك «تاكوما»، وهي على مسافة ضئيلة من «سياتل» بولاية واشنطن بتشظيات من تلك التي شهدتها مدن أميركية عديدة، فلا يمهلك الوقت، حتى تجد نفسك في شقة بالمجمع الإسباني، تطل على جمالية الحي ورونق الهدوء، رغم أنها فارغة من طقم الجلوس، فما جلبته من أثاث لم يكتمل ليشعل فضاء الروح، حيث الفراغات والزوايا، دون أشيائها تبدو فاترة، وتبدو باردة كالطقس الذي يلف المكان. استثمرت الوقت للتعرف إلى أصدقاء جدد، فأشار لي أحدهم أن أتحدث مع إمام المسجد إذ لديه أثاث جديد، فلم أستسغ فكرة شراء طقم جلوس مستعمل، لكن أقنعت نفسي بالذهاب، تنفيذاً لنصيحة الصديق، الذي ألحّ على فكرته.
وبعد الانتهاء من صلاة العصر، قدّمت نفسي للإمام، وكان شاباً يكبرني بسنوات قليلة، فسارع بالقول: هيا بنا، والابتسامة تعلو وجهه. خرجنا من عتبة باب المسجد، وإذا به يقود سيارة فخمة وسريعة، سعرها كما يبدو يتجاوز الخيال، فاستغربت وساءلت نفسي: كيف لهذا الإمام أن يقتني سيارة مثلها، خصوصاً أنه يقودها ببطء لا يتناسب مع قوتها، وذلك انسجاماً مع طبيعته الهادئة، وابتعاده عن نشوة الجموح والإقدام.
خرجنا من تخوم المدينة ووصلنا إلى حارة جميلة، بها حدائق موردة ومروج خضراء، وأشجار ذات ظلال محتشدة.. لم تكن المسافة بعيدة كثيراً عن المدينة، لكن الحياة في هذه الضاحية تبدو مختلفة ومزهوة. ترجلنا أمام بيته الأنيق، وأشار بالجهاز الإلكتروني، فانفتح الباب وتبدد الظلام بالإنارة، وفوجئت بما يحويه البيت من طقوس الطرب بتوزع العديد من آلات العزف في الزوايا وعلى الجدران.
ازددت حيرة بهذا الإمام، فبادرني بالابتسام، وكأنه يزيد حيرتي، وقد أشبعها الصمت عطشاً وتولعاً لمعرفة المبهم، ليس في وظيفته كإمام، ولكن بتلك العلامات والأدوات الدالة على ولع بالطرب والرخاء بما يشهد عليه الأثاث الثمين. أشار الإمام إلى طقم الجلوس الثمين بطرازه الفريد، وجلسنا نتحدث. قال: كل ما ترى ليس لي، فأخي أنهى دراسته، وغادر إلى الخليج العربي، وترك لي تصريف كل ما يملك.. أنهى الإمام حيرتي، فانصرفت لقراءة الأثر الذي تركه الأخ المغادر.