يداهمك شخص ما لا تعرفه، ولا يعرفك، ولكنه يبدو لك وكأنه يعرفك، حين يهاجمك بحزمة من الأسئلة، وملف ضخم من الحكايات التي لا تبدو لك ذات شأن، ولكنه يصر على طلب إصغائك، وجمع كل حواسك، كي تستمع إليه باهتمام بالغ، وكلما حاولت الالتفات إلى جهة ما، رفع صوته، كي يلفت انتباهك، ويقول لك انتبه، أنا هنا فتضطر إلى التوجه إليه بابتسامة باردة، وتهز رأسك مستجيباً لنداء يأتيك من خارج اهتماماتك.
ربما تكون في محل السوبر ماركت، أو على كرسي الحلاق في انتظار دورك، أو حتى محطة أدنوك، بغرض تغيير زيت السيارة. هناك تكون أنت كمن يعقد عزمه تحت سطوة الرطوبة، وينتظر متى، وكيف تنتهي هذه العربة الصغيرة من فك عقالها، وتخرج إلى الشارع، بالسائل الأصفر النظيف، والأخ يطاردك، بحديث شخصي ويجلدك بجمل، وعبارات، لا تعني سواه. يحدثك عن حرارة الطقس، وكأنها موجة مباغتة لم يشهدها من قبل. وقد يحدثك عن زحمة الطريق، وفوضى المتسكعين، والعابثين في الشوارع، بصورة غوغائية.
قد يتطرق الأمر إلى أمور شخصية بحتة، فيسرد لك الأخ عن سفر أسرته إلى بلد ما، وإصرار الزوجة على تصدر مقاعد الدرجة الأولى في الطائرة التي أخذتها والعيال إلى زيوريخ. تظل أنت محبوساً في شراك الحديث الطويل، وحماسة الأخ في بث شكواه، ونجواه من الوحدة، وأحياناً يبدي لك رضاه عن وجوده بعيداً عن تململ الزوجة، وإلحاحها، على السفر، رغم عجزه المالي، ويقول لم بامتعاض، مهما كلفني سفرها من مبالغ مالية، إلا أن ابتعادها عن البيت، يشعرني بالسعادة، كوني لا أجد من تصدعني في كل لحظة بأسئلة يدوخ لها الرأس، وتصيبني بالغثيان. ثم يضحك، ويجلجل، ثم يفسد ضحكته، بزفرة، ربما تدل على ضيق في الصدر لا تدري أين مصدره، ولكنك تفهم من نظرات الأخ انه يعاني من فراغ ما، أو أنه اعتاد أن يفكر بصوت عال، ولم يجد سواك في هذا المكان، فسر إليك ما يخبئه في صدره.
تحاول أنت أن تغير مجرى الحديث، وتفكر في الهروب، ولكن الأخ، قد أطبق القيد على مشاعرك، ولن يحيد عن الإمساك بك، مهما بلغ منك من محاولات للتخلص من قيده. وعندما يغادرك، ينظر إليك بشفقة، ويقول لك العبارة الرتيبة «اسمح لنا، يمكن أزعجناك في كلامنا». تبتسم أنت وتقول مجاملاً «لا، بل أسعدني الحديث معك» يغيب الرجل، وتتنفس أنت الصعداء، وتمسح عن جبينك العرق، ثم تنهض لمعاينة العربة الملقاة على الرافعة الحديدية، مثل الجثة.