الالتفات إلى الثقافة باعتبارها الحاضنة الكبيرة والوحيدة التي تستوعب الجميع، هو ما يضمن انتقال المجتمعات من الأحادية إلى التنوع والثراء. ولا يمكن التأسيس لخطاب ثقافي متنوّر، إلا إذا تحررت المفاهيم الثقافية من أطرها الجاهزة. خطاب الانكفاء على الذات والتحصّن بتركات الماضي لم يعد مقبولاً اليوم في العالم كله. الدول التي ترغب أن يظل ماضيها حاضراً في وجدان الأجيال المقبلة، تحتاج أن تنتج بالقدر نفسه قيماً جديدة، وأن تسمح للفنون والآداب والرؤى الفكرية بالتحرر والانفتاح. أيضاً لم يعد الصراع بين دعاة التجديد ودعاة المحافظة على التراث والأصالة مقبولاً في المجتمعات التي تتطلع بشغف إلى المستقبل. وهو صراع عانت منه الثقافة العربية كلها لسنوات طويلة وكانت النتيجة أن كلا الجانبين أسهما في إقصاء الآخر بدلاً من الارتقاء معاً.
نعيش تراجعاً علنياً للشعر العربي في حياتنا اليومية. ولأكثر من خمسين سنة كان الشعراء يتصارعون على الريادة بتدمير خصومهم. جاءت الحداثة بشعارات التفكيك والهدم وإعادة بناء النص بغية إنتاج خطاب شعري جديد موجه لمجتمعات لا تزال تقليدية في عمومها، على الأقل في فهم لمعنى الشعر. وكانت النتيجة أن أقُصيت أصوات أجيالٍ كاملة من الشعراء الذين فضّلوا الالتزام بالشكل التقليدي العمودي للقصيدة.
بالمقابل، بقيت القصيدة الجديدة غير قادرة حتى اليوم على ملئ الفراغ الكبير الذي شكله الإقصاء المتعمد لشعراء العمود من المشهد. وهذا الإخفاق الذي نال من القصيدة الجديدة، سببه أيضاً كان الصراع المستمر والضدية العنيفة، التي واجهت الشعر الجديد على المستوى الجماهيري، حيث ظلت النصوص في معظمها حبيسة الورق، وليس المنابر التي اعتاد الجمهور أن يستمع منها إلى الشعر. وهذا ما يفسّر الاحتشاد على أمسيات نزار قباني ومحمود درويش مثلاً. بينما بقية أجيال شعراء الحداثة هم اليوم بلا مستمعين. وربما ينطبق ذلك على شعراء العمود أيضاً.
ما الذي حدث إذن؟ هل سيموت الشعر تدريجياً ومن تلقاء نفسه في المجتمعات الاستهلاكية المتطاحنة؟ بالطبع لا. هل يحق لنا أن نطالب بثورة جديدة في الشعر شكلًا ومضموناً وفعلاً وتجاوزاً، لنأتي به من جديد إلى صدارة التعبير الإنساني العالي؟ أم أن الشعر نفسه، بدأ يذوب في فنون أخرى كثيرة، في القصة وفي الرواية والسينما والمسرح؟ والأهم، هل انتهى الصراع الساذج بين التيارين التقليدي والحداثي؟ أم لا يزالان غارقين في دماء بعض؟