يملك البعض حولنا أحكاماً مسبقة إزاء الكثير من الأشياء، فتجدهم لا يحتملون قبول ما يخالف بديهياتهم الموروثة حولها، لديهم استعداد دائم وقدرة عالية في فرض ذلك الموروث، بطرق أبعد ما تكون عن العلمية والمنطقية أو حتى الإنسانية، ورغم ذلك تجد لأصواتهم الغلبة.
بدايةً يجب التأكيد على أن هذه الفئة عادةً ما تمتلك قوة تقليدية، كالمراكز المرموقة، والسلطات الاجتماعية، وهو ما يمنحهم الحق في قطع الطريق على الآخرين في التفكير، وخصوصاً على أصحاب الفئات العمرية اليافعة، ممن يعدون ضعفاء فكرياً، لا يملكون خبرة حقيقية، ولا قدرة على الاعتراض والمواجهة، وكذلك على أولئك الخانعين ممن يميلون أساساً للتسليم، سواء لتحقيق أهداف ومصالح، أو لكونهم أساساً لا يملكون رؤية أو معلومة حول ما يتم فرضه عليهم.
بالفعل، الجهل يعد أهم أسباب الخنوع وحجب التفكير، مما يجعل أصحابه يكتفون بالأحكام المسبقة، وينأون بذواتهم بعيداً عن أي شحنة نقدية فاعلة، فغياب المعلومة يذهب بالجاهل بعيداً عن أي مكاشفة، لنفسه أولاً، إذ يرفض الاعتراف بأن رأيه المنحاز ذاك، ليس نتاج دراية وقناعة، وإنما نتاج عدم معرفة حقيقية بالأمر، وهو ما يزيد الأمر سوءاً، فيأتي التشبث بالموروث بدافع العناد والمكابرة، لا بدافع تحقق المصلحة السوية، إذن.. ما الحل؟
في مجال العلوم، تقوم الدراسات الرصينة على مبدأ نقد النظرية، بمعنى، قيام الباحثين على دراسة حقيقة توصل لها علماء سابقون، دراسة نقدية كاملة، بغرض إثبات عدم صحتها! يبدو الأمر غريباً للوهلة الأولى لمن لا يعلم هذا المسلك العلمي في الدراسة والبحث، غير أن الحقيقة، أن ذلك هو ما يحدث في مجال العلوم طوال الوقت، ولذا يعد التطور العلمي أسرع أنواع التطور التي تشهدها البشرية، على عكس التطور الفكري والاجتماعي، الذي لا يشهد هذا النهج من الدراسة والنقد، فالعلوم تنمو باستمرار، وبوتيرة أسرع بكثير، لأن هناك من يقوم بنسف ما هو مثبت، وإعادة بنائه من جديد، أو تأكيده وإكمال البناء عليه، عندما نملك هذا القدر من الشجاعة للاعتراف بجهلنا، سنكون وقتها قادرين على التقدم، هذا هو مبدأ العلماء ممن حققوا قفزات في التاريخ الإنساني، يا ترى.. لو فعلنا ذلك فيما نورث بعضنا بعضاً من سلوكيات وعادات، فكيف سيكون الحال؟!