من يذكر أبوظبي قديماً؟ من التقط الصور وسط السبعينيات، بداية نهضة الإشراق وفي نبضها الأول؟
بدأنا أنا وصديقي نستعيد سحر ذكريات استيقظت فجأة، ونحن نطل على الكورنيش، والمشهد يستفزنا ويعتصر الذاكرة. نحدق في معالم النافورة، تلك القلعة الجميلة التي غيّبها التغيير، كما غيّب الزمن بائع «النخي» مرجان، وصوته كأن لازال يسافر في ثرثرة الموج.. هكذا نستدل بالرؤى على أمكنة من وحي الغياب، ونستدل على تحفة النخلتين الفضيتين وسط حدائق الذكريات الجميلة.
من منا تحضر في ذهنه المخابز والمقاهي والمطاعم قديماً؟ نستذكر لذة المذاق الأول لطعام أتى بسحره، كتلك التي بثها في استشعارات التذوق لدى الصغار والكبار، المخبز الحديث مثلاً الذي لم يكن يبعد إلا مسافة قصيرة عن الكورنيش. هناك كانت تنعقد جلسات يعمها الفرح، جلسات تحفها ثرثرة وضحكات مع ثلة من الرفاق، يمازجها غناء المذاعات الصغيرة، وبائع المبردات يقرع جرس دراجة يستوقفها المارة.. وجوه لها سمات المكان، عندما ترفدها المساءات بضجيج الأطفال، والأمهات يتحادثن، وهن الجالسات على يقين من المسرات وهدوء البال.. تلك هي مساءات حميمية تتلألأ بالكورنيش قديماً.
وتمضي بنا رحلة الاستذكار لتقترب من مخبز الكمال الذي استقر فيما يسمى دوار الكمال، وفي خصر الزاوية منه يلتصق بائع الفلافل، وبعده مطعم العلمين، وعند الرصيف تفتح لك مكتبة التربية والتعليم قلبها لتمنحك كتباً بالاستعارة وبطاقة تحمل صورة، وهي جزء من اشتهاء آخر، ولذة ثقافية من رحيق الحياة.
وتتدفق الذكريات والصور، حين بدأت مطاعم الملاح تقدم (الكوكتيل) لأول مرة، لم يكن هناك ما يضاهيه بالطعم، متفرد بكؤوس عملاقة، لم تعتدها الناس، وهم على بساط الطبيعة كانوا.. لازال مطعم «بو طافش» بالبطين متجدداً، نكهته بالأسماك التي يتقن شواءها، بينما انطفأ مطعم «أبو كابي» منذ زمن ليس ببعيد، وتلاشى عن زائريه، ومن أدرك حارة «البار هوز» قديماً يتذكر بائع الفول اليمني البسيط الذي أبهر بطريقته محبي ومرتادي المطعم.
الناس أحياناً تكتشف حياة المدينة من خلال الطعام الشهي وبداياته، وذاكرة أبوظبي عامرة بجمالية المكان ونمو الأسواق والمجمعات التجارية التي أطلت في مطلع الثمانينيات، ومعها تحرك السلوك البشري نحو رؤية حضارية، فاتسع ذوق الإنسان لأنواع جديدة من الموسيقى والأفلام، خصوصاً مع انتشار متاجر متنوعة رفدت الحياة اليومية بابتكارات جديدة.