يواجه العقل البشري اليوم معضلة الوجود من دون ريبة، ولا شك. ولكن من منا لا يعيش هذه المعضلة،؟ فنحن لو أتينا بفرويد، وأعظم فلاسفة العالم، والمحللين النفسيين فلن يستطيع هؤلاء تخليص العالم من كونهم الارتيابي. لماذا؟ لأن ما حدث في هذا العالم أشبه بالانفجار الكوني الأول، والذي تكونت منه الحياة على الأرض.
ما حدث هو استلاب للعقل، واختطاف للفكرة الأولية، وهي العفوية، والبراءة من كل ما يعيث بالعقل من فساد أفكار، وانهيار في الضمير، ودمار في الذمم.
اليوم عندما نقرأ في الخريطة العالمية، نجد هناك ما يصدم، وما يهدم بنيان العقل، لأن الإنسانية الجميلة التي بنت هذه الحضارة المدهشة، هي نفسها التي تتحول شيئاً فشيئاً إلى وحش ضار، يهشم عظام الحضارة ويمزق جسدها.
الإنسان الحضاري، يستدعي اليوم نظرية فرنسيس بيكون في قراءته للطبيعة، باعتبارها العدو الأول للإنسان، وعلى أثر هذه النظرية الغاضبة، نجد السباق للوصول إلى أهم أدوات التدمير، وتخريب ما وصلت إليه الحضارة، من رقي، وتقدم.
العقل البشري الناضج، تحول بقدرة النفس الشريرة، إلى عقل طفل، يستخدم لعبته، ثم يهشمها فيرميها في سلة المهملات. هذه هي العقلية المنحنية، والمنثنية، والذاهبة إلى منزلق الاكتئاب السوداوي، والعصاب القهري المدمر.
اليوم تتشرف الدول بما تملكه من سلاح فتاك، وتتغنى بصواريخ الموت، لأنه لم يبق للإنسان ما يحتفظ به من أخلاق، بعدما ذهبت الأخلاق إلى محيط التهور، وغاصت هناك، تبحث عن مضمونها، في اللا معقول.
هذه هي معضلة العقل، كما هي معضلة العصر، وعلى الرغم من قدرة الإنسان على العيش المشترك، والأرض تسع الجميع، ألا أن ضيق الأفق، أصبح المشنقة التي تطوق العنق، والنحر، والصدر، والفكر، ولم يبق للذاكرة من منفذ حتى تتذكر، وتستعيد ما فقدته من محسنات بديعية، في قصيدة الانتماء إلى الوجود. لم يبق أمام الذاكرة البشرية من صورة جمالية في هذا العالم، طالما غطس العقل، في بؤرة الانتماء إلى العزلة، والكف عن الولوج في نهر الحياة، وارتشاف العذوبة، من نهل العقل المنفتح على الآخر، ومن دون إغلاق النوافذ، وتصور العدو المتوهم.
معضلة العقل أنه وقع فريسة الخداع البصري، والتهمته أفكاك الأنا المتضورة، ونهشت من عظامه، أنياب التفكير بالأنا، ومن دون أخذ الاعتبار، بأنه ما من شخص، أو مجتمع، يستطيع أن يعيش الازدهار إلا بتعاضده مع الآخر، فالشجرة الواحدة لا تنمو بغصن واحد، والقارب، لا يمخر عباب البحر بمجداف واحد، والنورس لا يطير إلا بجناحين.