التاريخ العربي مليء بأضغاث الأحلام، ومزدحم بالصور الخيالية، وأوهام ما قبل النوم.
التاريخ العربي طافح بأعراض العصاب القهري، ولا زال يضخ ملحه قبل مائه في الوجدان. منذ أن نزل الإنسان عن الشجرة، وتلقف أول ثمرة ناضجة سقطت لتوها من لب الغصن الرطيب، بدأت الفكرة الجهنمية تدور في الذهن، وبدأت تتحرك باتجاه الأنا وليس الـ «نحن»، الأمر الذي جعل من الخوف من الآخر أمراً مبرراً، وحجة دمغت ختمها في الروح.
نتحدث عن الإنسانية، ونضرب مثالاً بالروح العربية المختلة، والمحتلة من جهة عدوان العصاب القهري، الذي امتلك زمام السطوة، والسيطرة، على النفس، وصار يقود مراحل التاريخ على أساس الأنانية، والتمحور حول الذات.
ولكن هذه الأنانية لم تكتف في عزل الإنسان عن الآخر، بل امتدت مخالبها إلى الذات نفسها، فبدلاً من أن يبني الإنسان العربي علاقته الصحية مع الآخر، انزوى يبحث عن ذاته في ذاته، ولما أصبحت هذه الذات من الصغر بحيث لا ترى بالعين المجردة شعر هذا الإنسان بالخذلان، فانكفأ أكثر وأكثر، ومزق قميص العلاقة ليس مع الآخر فحسب، بل مع بني جنسه، واستمر البحث عن الذات المصغرة، وشيئاً فشيئاً، فصارت الدائرة الكبيرة والتي هي الوطن الكبير إلى وطينات، والوطينات تحولت إلى جزر صغيرة فاصغر، وأصغر، حتى أصبح الفرد الواحد يمتلك في داخله وطنه الخاص، وقد يكون هذا الوطن متمثلا بطائفة، أو أسرة، أو لون، أو أي فئة تتوافق مع متطلبات الأنا العصبي.
اليوم عندما نتأمل اللوحة التشكيلية التي غطاها غبار العصاب القهري، نرى ما قد تؤول إليه العصبيات من تشققات، في القماشة، وما قد يفصح عنه هذا الانتماء العصبي إلى تيارات، تستهلك نفسها في شعارات باهتة، وأطروحات لا تخدم إلا قضية الشخص العصابي، والتي في نهاية الأمر، تطيح به، وتدمر مشروعه الانعزالي لأنه ما من متعصب إلا ويقع في شر عصابيته، وما من مريض بالعصاب القهري، إلا وينتهي به المطاف إلى منازل المرضى في مستشفيات المجانين.
ينبغي ألا نغلق النوافذ، وألا نحكم الأقفال على أنفسنا، وندع غبار العصاب القهري، يخنق أنفاسنا، ثم ندعي بأن الآخر يريد انتهاكنا، والاعتداء على حقوقنا.
نحن ننتصر بتصالحنا مع الآخر، وننهزم، بعدائنا السافر لكل ما يخالف وجهتنا. أعتقد أن الانتصار المطلوب ليس على الآخر، وإنما هو على النفس، عندما ننتصر على أنفسنا، نستطيع رؤية الواقع كما هو، وليس كما يصوره لنا عقلنا المصاب بالعصاب القهري، والذي يأخذنا إلى عصبيات، القهر، والعزلة.