احترتُ في أيهما هلاكي، في الاقتراب من النار ولسعها، أم في ملامسة الكتاب، والولوج إلى كنهِه، والذوبانُ في متونه وحواشيه. كانت البداية طفلاً، عندما مددتُ يد السؤال إلى كتابٍ مهملٍ في ركن منسي فأغشى غباره بصري. وحين فتحت غلافه، شكّني شوكٌ نافرٌ في العقل، ووخزتني أسطر البدايات الناقصة، وسحبتني حروف جرٍ إلى شتات. كان الكتاب بعنوان (الحرية لا تأتي) ولزم بعدها أن أذهب إليها، مشدوداً إلى فكرة العثور على المستحيل الضائع. كبرتُ، وأنا أنبشُ في ما تتركه الأقلام الخائفة، فلم أجد إلا عويل منفيين، وشطحات مرتبكين، وتأسفات ألسنةٍ عضّت الحسرةُ على نطقها، وكوى جمر الخوف شفتيها. وطوال عمري، وأنا ألهثُ من كتاب إلى كتاب، لم أعثر على بقعة الضوء التي يمكن أن ينبت لي فيها جناحان لأطير. ولم يقدني أبطال الروايات الرومانسية إلا لجدارٍ لا يُهدّ في الواقع.
ألوذ بكتب الماضي، أحفر في زيفها كاشطاً طبقاتها كلها بحثاً عن الحرية، ولا أجد سوى برق سيوفٍ هتكت رقاب من همسوا باسمها. وفي ملاحم الشعر، كان الدمُ حبر التداعي، والصمتُ ناي وصفٍ لأطلالٍ بلا أثر. كأن الحرية والحقيقة وجهان مُسحا من عملة الكلام، ولم يبق منهما سوى رذاذ المعاني الذائبة بين السطور. وبدلاً من أن يحررني الماضي، صرت سجينه الأبدي، صرتُ المهرول في لغزه وأنا أدرك أن غاية ما أرنوه ليست هناك، بل هي في الضوء الذي كلما ظننته آتياً، ارتفعت أمامه ظلال أيادٍ كثيرة، غايتها فقط أن تحجب الشمس.
أدرك اليوم، أن في كتاب الحقيقة دم فلاسفة كثيرين، بعضهم تجرّع السم جهراً، وبعضهم سيقوا إلى مقاصل النفي مع كلماتهم. وفي الكتاب أيضاً شفاهُ شعراء أغلقها كيُّها، وهتافاتٍ أُخرست بالسوط. ولو قّدّر لرسامٍ أن يطبع كتاب الماضي على قماشة أو حائط، لرسم الرعايا قطيع رؤوسٍ تعجُّ بتكرار تلقينها. والطيور بأجنحةٍ ناقصة، والأشجار بظهورٍ منحنية، والرواةُ يمجّدون الموت وفي ظنهم أنهم يعلون من شأن الحياة. إلى أين الفرار من كتب الماضي إذن؟ ها هي كتب الحاضر نسخةً تطابق أصلها القديم بلا فكاك ولا قطيعة. ها هم الشعراء يتقلبون هجواً ومدحاً وليس بينهما ثالثٌ يُدلي بشفرة الضجيج. أما الحرية، تلك التي علقتُ يوماً في وهم حبالها الطويلة، فأظنها لا تأتي.