الكاتمة قد تكون قاتلة، أو متفائلة. انهار الصندوق الأسود، يحمل أسرار الكون الداخلي، ويحفظ ما جاء في عوالم الحياة، وما جاش في العلاقات الإنسانية من أمواج، وأفواج من الصراع الداخلي. لا تستطيع أن تفك شفرة الشفتين المطبقتين على شحمة البوح. لا تستطيع الإفراج عن العصفور المحتبس في قفص الفم المغلق حتى إشعار آخر. تفكر في كيف ستجري المياه العذبة في جدول تراكم الحصى في جوفه منذ أمد بعيد.
تفكر، كيف يمكن للكهف أن يغسل أطرافه وأحشاءه بضوء الشمس، وقد لفه ظلام الصمت وأصبح في قيلولة الأبدية. تفكر لماذا لا تفتح المحارة نافذتها، وتبدي ما بداخلها، لعل وعسى أن يسفر الظلام عن قمر، يقص حكاية الأحلام التي بترت أجنحتها، وأصبحت مثل سلحفاة، تجر أذيال التعب، وهي تتزحلق على الرمل باتجاه البحر.
تفكر، أنت وتتأمل الوجه الساهم، الواهم، المتفاقم، المزدحم بملفات ماض، لم يزل يشدد قبضته كي لا تفلت كلمة، فتصطدم بحائط سميك، وتقضي على الأخضر والأصفر.
تفكر في هذه المرأة، وهي تقرفص أمام الشاشة، مثل تمثال بوذي، تجمد عند نقطة الصفر، وأنت المتأمل تبدو نظراتك مثل ضوء خافت، لا يفصح عن رؤية تدلك على الإبرة التي ضاعت منك في زحمة الأفكار.
تفكر وتمارس تأمل كاهن مستجد، لم يزل في خطوته الأولى نحو الكهنوت، ولكن تثبت التجربة أنك في كشف أسرار هذه المرأة، كاهن فاشل. تشعر بعقدة النقص، وينتابك شعور بالإحباط، عندما لا تجد مسلكاً يقودك إلى فهم اللوغاريتمات، عندما تصبح أمام هذه المرأة طفلاً في مرحلة الحبو. تحبو أنت، فتصبو، فتخبو، فتنطفئ، مثل شمعة تالفة جافة. تحاول أن تخرج من فوهة عجزك، تحاول أن تهرب من مخبأ القلق، تحاول أن تمارس حقك في البحث عن كلمة، ربما تتسرب خلسة، وتصل إلى وجدان هذه المرأة، ولكن لا جدوى، أنت فقط الذي تتحدث، ويرتد الصدى مثل رصاصة طائشة، أنت وحدك الذي يحاول أن يستدرج، ولا يخرج إلا بفتات، ربما لا يصلح لبناء جملة مفيدة.
تصاب بالأذى وأنت تجهد نفسك، لكي تستنطق الجدران الصمّاء، ويعتريك خوف على لسانك، من أن ينعقد فجأة، وتصبح أنت الأخرس الذي جاء ليعقد حلقة النقاش مع أخرس. تصمت، وتظل تدعك صدغك، وتفرك لحيتك، وتسبل ناظريك، متأملاً هذا التمثال الأسطوري، ثم تلتفت جانباً، وتنظر إلى فتحة في الباب، أو شق في النافذة، تود أن تصبح حشرة أدق من الخيط، وتتسلل وتغادر المكان بسلام، ومن دون خسائر.