ما أن نزل الرجل من سيارته مقابل المطعم الذي ينوي تناول طعامه فيه، حتى لحقت به فتاة صغيرة ترجوه أن يتصدق عليها بإلحاح «لطيف»، تجاوب الرجل بسرعة مع الصغيرة ومنحها ما أسعدها فأخذت تدعو له فاستحسن الرجل صنيعها. ولكنه ما لبث أن يكمل طريقه إلا وقد سمع الصغيرة تصرخ وتصيح، فالتفت ناحية الصوت وإذا به يشاهد ولداً صغيراً منقضاً على الفتاة ممسكاً بشعرها ويركلها بكل قوة. أسرع الرجل إليها محاولاً إنقاذها منه، وبصعوبة هدّأ الولد وأبعده عن الصغيرة، مستفسراً منه عن سبب صنيعه: فإذا بالولد يخبره باكياً أنه أول من شاهده وهو من يحق له الحصول على «الصدقة»، فهو أحوج منها! أسرع الرجل وأعطى الولد الصغير مبلغاً مماثلاً لما أعطاه للصغيرة.
ذهب الرجل تاركاً المكان متجهاً إلى المطعم، وتصادف أن جلس على مقعد يطل على الشارع الذي دلف منه، وبمجرد انتهائه من طعامه وجد الصغيرة تتعرض ثانية لضرب مبرح من الفتى نفسه، وحدث أن تكرر ذات الفعل، إذ قام المحسن بإعطاء الصبي مالاً لكي يتركها. غير أن ما جرى بعد ذلك فاجأ الرجل، فبمجرد مغادرة المحسن المكان حتى عادت الصغيرة ضاحكة برفقة الولد إلى الجلوس متأهبين لاستدراج ضحية أخرى. حسناً.. هذه ليست قصة خيالية، بل هي حادثة حقيقية جرت في إحدى الدول العربية، والحقيقة أني بهرت بذكائهما، وأكاد أجزم لو أنهما كبرا وتوافرت لهما فرص تعليم بسيطة يمكنهما أن يصبحا في مكان مرموق ومؤثر؛ كونهما يمتلكان ذكاءً فطرياً تمكنا بسببه في التأثير على الآخرين عبر استدراج مشاعرهم واستثارة عواطفهم.
فن التواصل مع الآخرين، التأثير النفسي، الذكاء العاطفي لتحقيق مصالح شخصية، كلها وغيرها مهارات تقام لها دورات وتقدم شهادات ويصرف عليها مبالغ طائلة من طالبيها؛ وهي بشكل أو بآخر وجه لما قام به الشحاذان مع الرجل الطيب. في الحياة كلنا طيبون نتعرض لهذه الشاكلة من استدراج المشاعر واستثارة العواطف لتحقيق غايات لأناس آخرين، وأهداف لأجندات لا ندري عنها شيئاً. هناك وجه آخر لما نعتقده حقيقة، وحقيقة أخرى لما نراه بأنفسنا على أرض الواقع؛ وواقع آخر لما نشهده، وللأسف شهادتنا تبقى ناقصة لأنها جزء صغير جداً من صورة كبيرة. صورة صعبة الإدراك، لأنها تحتاج زوايا نظر أوسع بكثير من تلك الزاوية التي جلس فيها الرجل في المطعم مراقباً الشارع.