الفكرةُ التي عطبٌ نفحها، أجدى لروحك شطبها. والكلمة التي يلسعُ عقلك لفحها، أشهى لو تداريها، لتكون بيتك عند اشتداد اللغو، وليصير فحواها ملاذك إذا اغتمّت الناسُ، وخيطت شفاههم بمشط الخوف.
وما الرجلُ إلا كلمة، وما المرأةُ إلا نطقها، فإذا فاض الكلامُ على وجودك أعمى رؤاك. ولن تعرف خطوتك المسالك بعدها ولا مبتداها. ونأياً في السُدى سيكون سعيك. وقد يرميك نمّامون بحجر الأسى، وقد يتناوبُ حمقى على باب سكينتك حتى لا تعود تسمع بعدهم إلا الغمغمات. هكذا تبدأ لعبة الإصغاء، حين تمد رأسك في غابة الكلام فيصابُ بالحشو، وحين تحاول أن تنطق بالكلام المنمق، فترى شفاهك ترتجف، وخفقان قلبك يصعدُ، ولا تقوى على قول لا.
نحن أسرى الأفكار ليس إلا. والحرية، في عمقها الجوهري، ليست السفر بعيداً والهروب من طين القوانين وحبالها، وإنما في التجرد من الفكرة التي تظل تتكُّ مثل جرس الوقت في أعماقنا، ولا سبيل الى التخلص منها حتى لو قفزنا وراء المنحدر وتجاوزنا خدعة البركان. والنار التي تحرق في الظاهر العلني، لها شكلٌ آخر أشد جمراً في الضمير، حين تأكلنا الحسرة لقمة لقمة، أو تكوي نفوسنا الذكريات المرة ونحنُ لا نملك مهارة محوها. وكأن الذات مخزن أسرار تتلاطم في مدٍ وجزر وهدير.
كل ساعة فرح، هي عمر حياة جديدة. وكل لحظة حزن، هي انطفاء ضوء بعيد. والناس، في تقلبات الدهر، نوعان. الأول يظلُّ خارجاً من حفرة الضيق حتى لو حاصرته جبالها. والثاني، هو الراكض بملء قدميه إلى فوهة الهلاك. هما مختلفان نعم، والفرق بينهما ليس في الاتجاه، وإنما في العمق، عندما يدرك الأول أن تجاوز العثرة يجب أن يبدأ أولاً من العقل، حين يرمي الرجل أفكاره المريضة ويبدلها بجناحين من ضوء مسافر. وحين يغفل الثاني عن حقيقة ذاته، ويظل يفتّش عنها في الملذات الزائلة وهي ليست هناك بالتأكيد.
إنها الأفكار، تجرّنا في كل صبحٍ مثل خيول جامحة ونحن في عربات التمني. والرجل الذي يلجمها ويروّض عنفوانها، هو الذي يصل في النهاية إلى خط النهاية. أما أولئك المتشبثون بوهم التعالي على الآخرين، فإنهم يسقطون لا محالة في منتصف الطريق. وسوف يظل هؤلاء أسرى التردد دائماً، فلا هم يأتون ولا هم يذهبون. والأفكار التي لا تتحرر، تظل تسجن أصحابها إلى الأبد.