قرأت مرة أن الفرق المسرحية التي كانت تجوب المدن والقرى الإنجليزية لعرض أعمالها استعانت سابقاً بحماية خاصة لممثليها، خصوصاً أولئك الذين يقومون بدور الأشرار خوفاً عليهم من غضب الناس! وفي المقابل كان للممثلين الذين كانوا يقومون بدور الطيبين والفرسان تقدير خاص وترحاب من أهالي تلك القرى. كما أن أحد الأسباب التي جعلت المجتمع يقبل بمهنة المشخصاتي بعد أن كانت محل استخفاف وتحقير وعدم قبول، ما كان يورده أصحابها من حجج لدفع المجتمع لقبول المهنة هو ذلك الدور الذي يلعبه الممثل الطيب أو الحكيم في توعية الناس والرسالة الإنسانية التي كان يقدمها عبر أدواره! هذا ما كان فأين أصبحنا الآن؟!
للأسف.. لم تعد الأمور كما كانت؛ فلم تعد الأمور في الحياة بالشكل الواضح المطلق الذي يُسهل علينا عملية تصنيفها، بسبب تشويه أصاب المؤثرات التي كانت ولزمن مؤثرة في تكوين مداركنا ومنها على سبيل المثال الدراما التلفزيونية، فقد يجتمع الخير والشر بمقادير متباينة في موقف واحد أو شخص واحد وهذا واقع إنساني لا يمكن إنكاره، غير أن هذا يجب أن لا يختلط إطلاقاً مع أهمية أن يكون لدينا الحدس والمنطق والمعرفة اللازمة للتمييز بين الفعل الخيِّر والشرير، وهي معرفة مكتسبة من التربية والتعليم والمنطق ومنظومة القيم التي اتفق عليها المجتمع اعتماداً على الدين الذي يرتبط به والتقاليد التي توارثها. أما ما يحدث الآن، وعلى مرأى من الجميع ومباركته واحتفاء الإعلام ووسائله، فهو مما يخالف الطبيعة التي يجب أن تمضي، فأن يُـمجد الشر ويهاجم الخير ويحتفى بأفعال الإيذاء والتخريب، بينما سلوكيات النبل والحكمة والطيبة تـُحقر ويستخف بها، لهو أمر معاكس لناموس الكون.
يحدث هذا الخلط والتمييع بتعمد مطلق في الدراما، أحد أركان الإعلام الذي أصبح منذ عقود أحد مقومات التربية والتعليم بجانب المنزل والمدرسة والمؤسسة الدينية، إذ تقوم هذه الدراما على تقديم شخصيات رئيسة لامعة وقوية، ولكنها مربكة محيرة أمام المتلقي بشكل فج ومفرط طوال الوقت وبطرق مباشرة وضمنية في الكثير من الصور التي نتجرعها على مختلف أشكالها بكميات أكبر من تجرعنا للماء. يقوم البطل بالسرقة والقتل والنهب ويحصل على الثناء والتعاطف لشجاعته ولخفة ظله أو لوسامته، بينما من يمثل الشرطي الذي من المفترض أنه يحقق العدالة قد يكون محل استهجان وكره لغلظته ودمامته! فتجد الكبار قبل الأطفال يتمنون أن لا يقبض على اللص وأن يبقى طليقاً..! هذا التمييع المستمر لنماذج الشخوص التي على الإنسان أن يتعامل معها في محيطه، يربك بلا شك منظومتنا القيمية، خصوصاً أطفالنا الذين لم يعودوا يميزون بوضوح أين عليهم أن يوجهوا عواطفهم، ومتى عليهم أن يأخذوا مواقف تجاه بعض أفعال الآخر عندما يتحتم عليهم فعل ذلك، وهو الأمر الذي سيجرّ بالتأكيد تداعيات أخرى على صعد كثيرة.‏. فيصبح الضياع حتمياً.