سبق «حلف الفضول» الإسلام، بنحو عشرين عاماً، وهو إطار أخلاقي، ينبذ الجهل والظلم، ويحث على العدل، والتكاتف الاجتماعي، وشكّل أساسا لفهم التطور الثقافي في شبه الجزيرة العربية، ومرجعاً للحكم والقياس في قضايا ونزاعات قبلية عدة، ورأى مؤرخون أنه يشبه قانوناً شعبياً، صاغته قبائل عربية في مكة، وقد كان متمماً لأحلاف أخرى، لكنه لا يزال أكثرها أهمية، فقد جاء بعد نهاية حرب الفجّار الشهيرة، وسعى إلى احتواء تداعياتها بالسلام، والعدالة.
«حلف الفضول» كان اتفاقاً قبلياً لإحلال الحوار بدلاً من التناحر والخصومة، واستلهم الملتقى السنوي الخامس لمنتدى «تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة»، الذي بدأ في أبوظبي أمس، هذه الروح، بهدف إيجاد ائتلاف من رجال الدين، يدعو للسلام، ويرفض استغلال الدين في النزاعات والحروب، ويعمل على إعادة التوازن في نطاق كل ديانة؛ «لبناء الجسور بينها على أسس صلبة ودعائم قوية، قابلة للاستمرار والاستقرار، إلى جانب الإقرار بالتعددية، والحرية الدينية».
أكثر من دلالة في اجتماع 600 شخصية، من المفكرين ورجال الدين من مختلف دول العالم في أبوظبي، لإنقاذ الأديان من شرور التطرّف، ومحاولة التشدد المستمرة في زجها في الحروب، واعتبارها سبباً للنزاعات والصدامات بين الأمم والحضارات، فالإمارات بادرت إلى تأسيس منصة المنتدى في 2014، في ذروة صعود الإرهاب في المنطقة والعالم، والإصرار المريب على رده إلى أصول دينية، دون إعادة مقولات التطرّف إلى جوهر الدين، واختبار مدى انحرافها وبعدها عن رسالته في صون الإنسانية، ودرء المفاسد، وسائر مقاصد الشريعة السمحة.
«حلف الفضول: فرصة للسلم العالمي»، شعار النسخة الخامسة من المنتدى الذي افتتحه سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، ويسعى إلى تعظيم أدوار الحكماء والمفكرين من أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث، بحثاً عن القيم الدينية المشتركة بينها، بصفتها قيماً إنسانية، آن الأوان لاستثمارها ثقافياً في محاربة الكراهية والمغالاة، ورفض استغلالها في تبرير الموت والظلم، فلا بد لصوت الحكمة أن يعلو فوق ضجيج الخراب والفوضى.
بفضل تراكم خبرة هذا المنتدى، وتماسك خطابه واعتداله، استمعنا إلى رجال دين، قدموا قراءات تاريخية في مظاهر الانغلاق والجمود، التي ابتدعها متشددون، وجماعات، ودول، وأضفوا عليها دوافع دينية لتسويغها وقبولها، بينما هي ليست أكثر من مبررات للحروب والمصالح الاقتصادية والهيمنة، وثمة مراجعات لأفكار ونوازع ومقولات، ساهمت في تردي الوعي الإنساني، والاصطدام بين الشعوب، ومن المهم أن يتصدى أصحاب الاختصاص في «حلف الفضول» الجديد، للكوارث التي أطلت برؤوسها من تحت ركام كبير من التعنت والجهل، والعبث بسماحة الأديان، ورسالتها في التوحيد، بدلالاته العقائدية والإنسانية.
«حلف الفضول» يعود من بيت عبدالله بن جدعان القرشي في مكة، إلى «دار زايد» في أبوظبي، تحت مظلة المنتدى، وهو الإطار الفكري الوحيد المؤهل لإرشاد المجتمعات البشرية إلى طريق الأمان والسلام والتعاضد من أجل الإنسان، وكما يقول رئيس المنتدى الشيخ عبدالله بن بيه «لا نحمل سلاحاً، بل نحمل سلاماً وكلاماً. نحن إطفائيون بالحكمة والكلمة الطيبة»..