سرى الكلامُ علقماً في الحلوقِ بعد عذوبةٍ، وجرى نهرهُ شوكاً حتى ضجّت به المنابرُ هذا ضد هذا ضد ذاك وتلك. لم تعد الحكمةُ أن تُصغي لذاتك في خلوة الصمت، بل أن تنجو من زعيق المنفلتين في الذمّ، وعويل النائحين على الحقيقة وهي التي كمالها في نقصها. ولو قيل لرجلٍ هاذرٍ ما لبَّ فحواك؟ سيبثُّ علينا غبار فراغه، وشحَّ سريرته، ويكشفُ عن ضحالة غوصه ومسراه. ولو قيل لامرأةٍ عنادكُ يؤخر يقظة الحب. تُرى، هل ستترك ذيل الحصان كي يسافر منطلقاً في مدى الريح؟ وهل ستفكّ جدائل شعرها وترسم في الهواء ظلاً يتسدلُّ به حفاة العشق بعد مسيرٍ طويلٍ طويل؟ لماذا كلما حرقنا دفاتر الصبر عاد دخانها ليمطر فوقنا حِبرهُ؟ هل لزاماً أن تظل ذاكرة الأبواب التي أغلقناها وراءنا، مفتوحة؟ أجبني أيها الزمن الذي جرجرتُ عرباته الثقيلة خلفي، وفي النهاية وجدتها فارغة. قل لي أيها الكلام المحشوّ حشواً في البنادق التي اسمها الأفواه الجائرة. كيف تجاسرُ الشتّامون في التباهي وأشعلوا حفلة النميمة وغذّوا النار في رأسها. وكيف انفرطت مسبحةُ الصمت من يد الحكيم، وداس دجّالون على حبّاتها. هل هذه حربُ الكلام استعرت، وسقط الوضوحُ، مسفوكاً، على أرضها؟
تأخّر أيها الحب، أخافُ أن يتبلل جناحكَ في الثرثرات ويصيرُ فمكَ فقاعةً وهو في الأصل قبلة. ارحل أيها الأمل، احمل ثيابك البالية على كتفك الهزيل وادخل في الوداع منتمياً إلى غدٍ أفضل. هنا، في المساحة التي كانت مرةً رحبةً وبيضاء، في هذا الأفق الافتراضي الضيّق جداً، يعلو التنابذُ، ويُشاعُ أن الكلمة تُغيرُ جلدها ليلاً، وتخرجُ مجروحة علناً في النهار. ويدّعي الخرسُ أن الفصاحة ضربٌ من خبل، ولا مكان لها في الشاشات المعتمة. ومن يريد القصيدة، عليه أن يعصرَ جرحه ليذوق مرارة نبضها. ومن يريد الطمأنينة، عليه أن يخوض حاسراً في نهر الوهم، وأن يغرفَ بكلتا يديه من زوال مجراه.
تأخّر أيها الحب الافتراضي، لا مكان هنا إلا للغبار المطرود من الكتب القديمة. لا حرفٌ يُشرقُ إلا إذا احترق. جاع الدعاةُ إلى الفوضى فدقّوا أجراسها على رؤوس الغافلين، وأسسوا مذهب الخوف. ها هي قصائد المحبة ترتجف، ويتلعثمُ بديعُ لسانها. وها هي فكرةُ العناق تذبلُ، وينهشها الفِراقُ، ويهلُّ على ليل الرحابة قمرُ انغلاقها.