تباً للمداراة وفعلها ومقامها. أوثقتني إلى حبل ودٍ، وكستْ وجهي باحمرار الخجل. كلما صافحتُ بشراً، فاض الصفحُ من لغتي، وانثال سيلٌ من مديحي في مجرى الذاهبين والآتين. وظن الناس أن فخامتي في الوصف لباسٌ لهم. وأن غياب التذمر حتى في صوت شكواي، دليلُ طهري من دنس اليأس. لكنهم موهومون ثلاث مرات. مرةً في الصبح، حين أخاطب مرآة الفجر هامساً في أذنها العمياء: تعبتُ من دفن الأسئلة. وهي لا تُصغي، ولا ينعكسُ الضوء منها إلى هالتي. ومرة في الظهيرة، حين أرى الأرجلُ تسعى من وهم إلى وهمٍ ولا يلتفتُ أصحابها إلى شمس الانتباه وهي نورٌ فوقهم، وكأن البشر جُبلوا على ملاحقة السراب، وما عاد يضرّهم لو ماتوا وهم متشبثون بخيط الزوال. ومرة في المساء، في تلك الساعة التي كلما أغمضتُ عيني لأذوق سكونها، تفتّحت لي دهاليز أحلامٍ لا أريدها.
لا أملك إلا سلاح المداراة. أنا مع الفقراء ذاكرة زهدٍ ليس إلا، وقد أدّعي أنني سليل جيوبٍ فارغة. وأنا قرب حبيبتي قطّاف وردٍ ويدي مزهرية. لكن حبيبتي لا تعلمُ بأن الأحمر في الوردة هو لون دمي، والأصفر في الوردة هو شُحّ أصاب روحي وفتّق شروخها، والبنفسجيّ بقايا كدماتٍ طعنتُ بها الجدار ولم تتزحزح أيامه، ولم ترتخِ أسواره وأسراره. وكي أصل باب حبيبتي، عليّ أن أدور ثلاث مرات. أولاً حول المتاهة كي أطمئن لعودتي. وثانياً داخل المتاهة مواجهاً السدود عند كل انعطافة خطو. وثالثاً حين تقذفني الصُدفة في مجرى غامضٍ، ويلفظني نهرها إلى خلاصٍ مزعوم. ترىُ، هل وصلتُ؟ إذن لماذا لا يُفتحُ الباب؟ خارت يداي وأنا أطرق على النوافذ ولم ينكسر زجاجها بعد.
توارى خلف نُبلك، اكظم ما يضجّ في الروح ولا تبدِ إلا نقيضه. وإذا رأيت النار تُنفثُ من فم المنادين، صمّ أذنيك وابتسم للبحر. وإذا تجاسرت عليك الموجة وهزّ صفوك هديرها، اترك نعليك على شاطئ الذكريات، وادخل حافياً في سفن الحنين ولا تعد أبداً. وعليك أن تنحني للعاصفة كي لا ينتف شعرك سيفها. هكذا تُصانُ الخطوة حتى لو التفّت عليك دروبها. وهكذا تُهزمُ الفقاعة ويُذلُّ غرورها. والحياةُ إن هي إلا امتطاء مطبّاتها. والعمرُ إن هو إلا مسبحة من اللحظات في يد أقدارها. وأنت وأنا وهذا الطريق، مجرد أحجار نردٍ تُرمى، فوق الأسطوانة الدائرة.