حلمت ليلاً أن البحر يناديني ويهمس لي: تعالي إليّ.. ليمحو جمال موجي في جزره. فاستيقظت وكان النهار ضحى. فخرجت مسرعة إلى شاطئ عجمان لقربه من بيتي في المرقاب. فرأيت الأفق ممتداً كأنه الوعد بإشراقة الأمل. كان الطين في حديقتي يقبلُ ثغرَ الوردِ ، والماءُ سلساً ينساب بين الجذر والأغصان. الوقتُ يغازلُ بهجةَ البحرِ وأنا كالمأخوذِة في حضرةِ الإشراق والفيضِ !
كان الضحى وعشقي الأبدي للبحر يرافقني. وكان رمل الشاطئ يبرق كأنما السّكر معجون بذراته. البحر من سحره يغري مراكب أحلامي بالرحيل. والروح تصبو وتضطرم، كما تضج بعمق البحر حين العصف أهوالُ. سألت غموض الكون: أيها الكون قل من جاء قبل الآخر نحن أم البحر؟ وهل نشأنا كما تنشأ الأصداف من نطفٍ يحتويها البحر كما احتوانا في سره الرحمُ ؟ وهل سنفنى كما تفنى القواقعُ في لجّته حين المد والجزر؟ ولماذا تلهو بأقدارنا أمواج الحياة حيناً، وحيناً تعود بنا نطفاً في لجة الرمل والقبر؟ ترى.. أكنت أنا من جاء إلى البحر أم أن البحر الذي ناداني فلبيت، وتهت في تأمل أسراره ولسراري؟ من أين جاء البحر إليك يا عجمان؟ من ألقى به شالاً من الفتنة على كتفيك وصيرّ شاطئ الرمل مرايا تضج بفتنة المرجان والأصداف؟ من علم هؤلاء الأطفال أن يأمنوا الماء، وأن يلهوا مع الأصداف والأمواج، وأن يستأنسوا الشطآن؟ هل يدرك الأطفال أن الماء منبتهم، وأن الماء مسراهم، وأن الماء إذ يعصف مثواهم ومرجعهم؟ من علم الأطفال أن يبنوا قصوراً من الرمل، وينسوا أن قصورهم، برغم جمالها، سيجرفها الموج لترجع مرة أخرى إلى الرمل؟ ومن علمهم أن ينسوا ما يجرفه الموج ليبنوا، بلا كلل، مرة أخرى كأنهم أول من يبني؟ من علم الإنسان أن الوقت مثل الموج يمحو ما بنيناه، وأن الحلم أبقى مما تصنع الأيدي، وأن الحلم يستعصي على الأمواج والأزمان والأهوال والعسفِ.
كان الضحى مشرقاً، وكنت أرقب فتنة البحر والشطآن والشمس التي غيرّ طبعها عزف الموج وبرد الماء. فألقت على الأجساد التي جاءت إلى البحر مأسورة دفء فتنتها. ورقّتْ حتى بدا اللهب الذي ساطت به الدنيا ضوءاً أليفاً، يرج الماء في رفق، ويؤنسني ويؤنسهم. كنت على الشاطئ أرقب الناس وهم في لجة البحر يسبحون دونما خوف ولا حذر. وخفق قلوبهم كخفق الموج في المد وفي الجزر!