عندما يرفع قائد الأوركسترا عصاه، معلناً تدفق الأصوات الموسيقية كنهر جارٍ يتهادى بخفة مع رقرقة الماء، ثم تتدفق صعوداً محدثة رعشة الجمال مع انتشاء الآلات وأنامل وأنفاس العازفين، تبدأ رقصة الحب وموسيقاه اللذيذة.
فالقائد هو الساحر الذي يرفع مع فرقته اللحظة إلى أعلى من الواقع، ليخلق شعوراً مغايراً تصنعه الموسيقى برحابتها ولغتها الخاصة التي تداعب أعماق الشعور، لتهز شجرة المحبة فتتساقط الأنغام مطراً يروي كل الأحاسيس، فينصت القلب بدلاً من الأذن، وترقص الروح بدلاً من الجسد.
هكذا تماماً هو الحب، حين يتجلى صافياً وصادقاً حد الانفعالات الكبرى لمعانيه وتحققاته، حيث يمكنه أن يحيل الحديد ذهباً، وأن يجعل القفار بساتين، وأن يشفي المرضى، ويمسح على قلوبهم فتنتفي الكراهية، وتسقط الأقنعة، وتتهشم الضغينة.
تعرف الحبيبة جيداً معنى رعشة الصوت، ويعرف الحبيب معنى توهان النظرة؛ عند ذلك يكون المايسترو قد قاد اللحن إلى توهجاته، صاعداً نحو اللحظة البكر للشعور، عند تشكله الأول ونصاعة القلب الخالصة الشفافة كالماء النقي؛ ومن هنا لا يعود، بل يتجلى متصاعداً عبر آلاته وأنامل وأنفاس عازفيه، لينفجر في آخر السمفونية محدثاً هديراً كالشلال، وألواناً مضيئة في السماء، لتهب نسمة باردة على الخدين، وينفرج الوجه عن ابتسامة والقلب عن تنهيدة.
فما بين الحب والموسيقى، امتزاج يشكل الجمال كله، والتناغم الخالص في حركة الكون وإيقاع الزمن، امتزاجاً خلق في قلوب المحبين منذ الأزل، حيث علينا دائماً إدراك موسيقانا الخاصة، وحبنا الذي يشكل نقاءنا وقيمة وجودنا، امتزاجاً علينا أن ندركه دائماً، وأن لا يتوه أو يتبعثر مع فوضى الإيقاع اليومي.. امتزاجاً يسمو بنا وبالمحبوب.
ولتكن موسيقى الحب هذه ترسم شكل الأيام بحاضرها والآتي من الأزمان، لتسري في خلايا الحياة، عل الموت العبثي يتوقف، عل صوت المدافع يسكت، يتلاشى دوي الطائرات، وتعود الحقوق، وتسكن البراءة في حقولها.
وحده الحب مالك القدرة على التغيير، وحده القادر على حمل القلوب المشرعة على الجمال، أن تحلق وتنسج في الهواء الكلام العابر القادم من قصص الهائمين وأشواق العشاق.