بسيطة أنا كأن في لغتي لغة الحياة، وفي خفق قلبي وروحي نبض هذا الكون. عبر قلبي تمر الكائنات مترفة بغبطة وجودها. هانئة في رأفتي وظلي، تنساب متئدة بين ابتهاجي وخصب التراب. تتلو نظام الكون في مسراها، وأقرأ في طبائعها شريعة الحياة. فأفتح لألق وجودها نوافذ روحي وأطرز حديقة البيت بجمال أعشاشها، وأزرع لها الأشجار التي تفيض بالجمال والثمار، واستقبلها بقلبي الذي يفيض بالحب والطمأنينة. كأنني أهندس البيت لها وأنا مبتهجة ورائقة المزاج بانتظارها. لأنني أدرك أن عبر جسدي وحياتي وأيامي تمر الفصول مترعة بأسرارها وتنقش على وجودي مرور السنين والزمان في تعاقبها. فنحن حين نعد أيامنا بترف الثواني ونحصيها بوطأة السنين، لا ندرك أن مدارجنا الفصول وأجسادنا عناصرها. لا ندرك أنها خفية تعبر دون خديعة، لأن حياتنا ليست إلا تجلي الفصول في تعاقبها، لكن الفصول تعود إلى مبتدأ كلما صارت إلى منتهى أما حياتنا فلا تعود إلى مبتدأ حين تصير إلى منتهى!
عبر قلبنا وجسدنا تمر حياتنا بصخبها وسكونها، بإيقاعها ونزواتها، فكأننا كائن مفرد، واختزال الوجود. كأننا بعض فيض هذا الكون، وخفق أروحنا فضاءه، ودورة أعمارنا كأنها دائرة الزمان! لكنني كنت أتساءل دوماً وعلى مدار السنين: لماذا أقف خارج التسليم بالمألوف والساكن والعادي، والطاعة والتطويع وأشق دربي، وأبتكر القصائد ببذخ العصيان وترف التمرد على القوافي والأوزان؟ فلا طوق يشد إساره علي، ولا أفق يضيق بمدى أفقي. فلغتي تنساب كالماء رائقة، ومعانيها تشرق كالشمس بعد عتمة المساء، والندى الشفيف يوقظني كما يستيقظ البرعم من لمس الندى. والمطر الشحيح يبهجني كما تنتشي الجذور بعد حرائق الظمأ. الريح في اشتدادها وتري، وفي خفوتها همسي وإيقاعي، كأنني والكون مفردة، وبعض نبضي غموض السر في نبضه. وحين أعلو بأحلامي قليلاً يذهلني السقوط في خيبة الأحلام. ثم يعود يشدني توق خفي إلى النهوض بوهج الشعر وروح الشاعرية إلى العلى! أدرك أنني أنا والكائنات وضوح من يرانا في ظواهرنا. لكن في عمق وغموض سرائرنا لجة تعصى على الكشف وتحتجبُ.
نمضي في الحياة منذ ولادتنا فيشغفنا الكشف والتجريب في غموض هذا الكون وأسرار الوجود، لندرك ونضيء بالكشف البهي الذكي دروب حياتنا. عبر نزقنا وطيشنا وتأملنا ورؤانا وحكمتنا وحماقاتنا وصمتنا وصخبنا وضحكتنا ودمعتنا وحزننا وغبطتنا ويأسنا وأملنا وطموحنا وقناعتنا وحريتنا وقيدنا، تتجلى العصور وتكتنزُ. نحن الكائن البشري، إشارات البشائر في يدينا إن مسنا الحبُ، وإن مسنا الحقد يستبدُ العدم!