الخميس 9 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ربيع السينما وغوايتها!

ربيع السينما وغوايتها!
28 ديسمبر 2011 22:57
برغم الصعوبات والتحديات التي تواجه المخرج العربي في حالة انجذابه لغواية السينما، وبرغم العقبات التمويلية، والتقبل الحذر من المحيط، والمخاوف الإنتاجية التي يمكن لها أن تقضي على وعود زاهية كان يغذيها هذا المخرج في مخيلته، إلا أن المداومة والحماس ووجود بعض المهرجانات والمناسبات و المساحات المضيئة في المشهد السينمائي العربي، يمكن أن تخلق هامشا من الدعم الافتراضي قبل المادي، وهامشا آخر من الحرية والتفاعل مع جمهور محب وشغوف بالنمط السينمائي، بسبب تفرد هذا النمط بلغة تحتمل الرموز كما تحتمل المكاشفة، وتتضمن النقد والاحتجاج، كما تتضمن الاشتباك والانتماء للمكان وللحالة التي يصدر منها هذا الاحتجاج. في الدورة الثامنة من مهرجان دبي السينمائي الذي أقيم مؤخرا، كان الاهتمام بهذا الصوت السينمائي العربي واضحا وجليا، وموازيا أيضا لهدير الأصوات الثائرة على بؤسها وتخلفها وسط شوارع الدم والدموع والأحلام الملونة التي ازدحم بها الربيع العربي والتي ضجت بها العواصم الملتهبة في تونس ومصر وليبيا وغيرها، فمن الأفلام الروائية الطويلة والأخرى الوثائقية والأفلام الروائية القصيرة، قدم مهرجان دبي (بانوراما الوجع) المنطبعة على الوجوه والأرصفة والشطآن والسجون والدهاليز والرمال والأحراش المشتعلة بالنور والنيران، وبالغضب والأمل، وبالانتماء والنفي، وكأن السينما هنا أصبحت هي اللسان الفصيح، والترجمان الأدق لأصل ومنبع هذا الوجع، ولقيمة وحراك التمرد عليه، وتشريح مسبباته، دون الرهان على خطابات مباشرة ووعظية وانتقائية، ولكن من خلال لغة عالية ومتبصرة وصبورة، لأن السينما كاقتراح فني خالص لا تتعامل مع الحالة المؤقتة واللحظية والهائجة، إلا بقدر من التأمل والنبش والاستشراف، وهي لا تقدم حلولا بقدر ما تثير أسئلة عميقة وتحرض على التحليل الجمالي والإنساني على السواء. الأفلام العربية التي احتضنها مهرجان دبي في توقيت ساطع اجتمعت كلها في مسابقة المهر العربي بأقسامه الثلاث (الروائي القصير، والوثائقي، والروائي الطويل)، وهي أفلام كما وصفها عرفان رشيد مدير البرامج العربية بالمهرجان: “كان من الضروري والبديهي أن تجد شاشتها الحقيقية في مهرجان دبي، الذي يعتبر السينما العربية لاعبه وفاعله الحقيقي، وبالاختلاف مع مهرجانات أخرى مثل (كان) و(فينسيا) و(لوكارنو) والمهرجانات الأخرى التي أفسحت كوة للثورات العربية، فإن خيار تناول هذه السينما في مهرجان دبي جاء منسجما كامل الانسجام مع الرسالة التي انطلق بها المهرجان منذ خطواته الأولى قبل ثماني سنوات”. ويؤكد عرفان على أن هذا الاختيار لم يتوقف عند محطة الثورات العربية فقط بل تناول قصصا وموضوعات وأحداثاً أخرى متشعبة، يمكن لها أن تفتح نوافذ مضيئة على ظلمة متراكمة وغموض متكدس في الواقع العربي. شتات الذات والمكان وبما تيسر لنا من مشاهدة للأفلام المختارة لمسابقة المهر العربي للأفلام الروائية القصيرة، والتي وصلت إلى 15 فيلما، يمكن القول ومن خلال عرض مكثف لأربعة أفلام منها، أن هناك ثمة خيط رفيع وخفي يجمع بين الخطابات الضمنية لهذه الأفلام ولعل أبرز ما يمكن الإشارة هنا هو: “الشتات الذاتي والروحي” الذي يترجم شتات الواقع نفسه الذي انبثقت منه هذه الأفلام والتي أنجز معظمها قبل ولادة الثورات العربية، وكأنها تتحاور هنا مع قلق مكبوت وانسحاق ثقيل وقابل للانفجار في أية لحظة، قلق حمل معه أسئلة مرة حول الهوية والغربة والعزلة والبحث عن منافذ صعبة للعيش بحرية وكرامة، وتحقيق شروط إنسانية قياسية ملحّة، ولكنها منسية عند الآخر البعيد والمتعالي والنائي بنفسه في مملكة الوهم وجبروت الأنانية بكل حصونها المنيعة والعمياء والمغلقة. ففي فيلم حمل عنوان: “حرّاقة” للمخرج الجزائري فريد بنتومي، نرى الكاميرا في حركة قلقة ومرتبكة ولاهثة وكأنها لصيقة بأنفاس وهواجس الشبان الأربعة محمد ولطفي ومالك و خليل الذين يقررون مغادرة الجحيم الأرضي المحيط بهم، واختراق الأزرق الكبير باتجاه الفردوس المتخيل في أوروبا، هروب سوف يكون أشبه بالخلاص، حتى لو أتى هذا الخلاص من قرار صارخ واحتجاجي ويتضمن المغامرة والخطر أكثر مما يتضمن الاطمئنان على المستقبل، ففي مهمة شبه انتحارية يقرر الأصدقاء الأربعة الهجرة إلى أوروبا في قارب مطاطي صغير وبلا أية ضمانات للسلامة والنجاة. يلاحق الفيلم بأسلوب ارتجالي التفاصيل المحيطة بالأصدقاء الأربعة قبل وبعد قرار الهجرة، ويتداخل النمط التسجيلي للصورة مع حواراتهم الصاخبة وخلافاتهم وتعليقاتهم الساخرة واحباطاتهم وإصرارهم على تغيير الواقع المعتم المحيط بهم والمتمثل في البطالة والغربة الداخلية والخراب النفسي، وهناك على متن القارب المطاطي ووسط أمواج البحر الهائجة، تتشكل أوديسا الهجرة بتقاسيم وخطوط مأساوية، ويتحول هذا الأزرق المهيب إلى مدفن مائي كبير لا يرحم أحلام البسطاء، ولا يروي عطش أرواحهم، وكأن بهذا البحر وقد أصبح حليفا للسواحل المتوحشة والأراضي البور التي قدمت هؤلاء الشبان كضحايا وقرابين في مهب الحرية المستحيلة. يوميات الألم أما فيلم (زفير) للمخرج المصري عمر الزهيري فيرصد ومن خلال مشاهد صامتة ولقطات طويلة ومتأنية إيقاع الحياة اليومية التي تشكل عصب ومزاج ومناخ علاقة زوجية باهتة ورتيبة بين رجل مسن وبين زوجته المقعدة، التي لا تتقن شيئا سوى مشاهدة التلفاز ومتابعة القناة ذاتها يوميا، بينما يتحمل الزوج لوحده عبء الاعتناء بها داخل المنزل في مقابل عبء آخر ثقيل ينتظره خارج المنزل، وهو خارج يبدو مقصيا ومغيبا من وجهة نظر الكاميرا رغم انعكاسه على ملامح الزوج وعلى روحه المحطمة. تتجول الكاميرا في شقة الزوجين الصغيرة، وكأنها تروي يوميات الألم ومذكرات الخدوش والمرارات والحسرة والكآبة التي لطخت الجدران والأثاث وتسللت بقسوة إلى الدواخل، حيث لا أحد يهتم بما يحدث في الخفاء، ولا أحد يطرق الباب كي يفتح منفذا للأمل والمشاركة والدفء، يعاني الزوج من الأرق الذي يسببه الزفير العالي والمزعج للزوجة أثناء نومها، ويتحول الأرق بدوره إلى رغبة شيطانية يخزنها الزوج في نواياه المعتمة، ولعل في مشهد الختام ما يلخص آلاف البيانات الاحتجاجية حول الأوضاع المعيشية للمهمشين والمنسيين في دوامة الحياة الاجتماعية المرهقة، وفي المقلب الحياتي الغارق ببؤسه وأنساقه المتطرفة. في فيلم (صيّاد الملح) للمخرج الفلسطيني زياد بكري تتجلي العزلة بأكثر معانيها فتكا وتنكيلا، لأنها عزلة قسرية فرضتها ظروف شرسة وغير منصفة على الإطلاق، حيث يتناول الفيلم قصة صياد مسن يعيش لوحده في كوخ هش ومتهالك، ويمارس طقسا يوميا يتمثل في الذهاب مبكرا إلى البحر، على أمل الظفر بسمكة تسكت جوعه، وتكسر الرتم الممل لحياة أقل ما يمكن أن يقال عنها هي أنها حياة مفتتة ومطحونة حتى النخاع، ورغم الخيبة المكررة والسلال الخاوية التي يعود بها الصياد إلى منزله، إلا انه لا يستسلم لهذا الفشل المكرر، رغم أن مسيرته اليومية باتجاه البحر ومظاهر الطبيعة المحيطة لا تشير إلى أي أمل أو بشارة منتظرة، فالطريق ممتلئ بالمقابر، والدروب موحلة ومالحة، والجبال نشف ريقها من شدة الوهج الذي تسقطه الشمس عليها كل يوم، تنتقل الكاميرا بين تجاعيد الصياد، وبين تجاعيد الماء المتغضن والشحيح، وتطول لحظات الارتقاب، ولكن لا شيء يحدث، ولا سمكة تقفز في سلة الشوق، وعندما يعبر أحد المارة وينبه الصياد إلى أن البحر الذي يصطاد فيه هو (البحر الميت) الذي لا يطرح سوى الملح ولا كائن يسكنه سوى الصمت وهياكل الخراب واللعنة، ولكن هذا القطع المفاجئ والمدوي في وتيرة الفيلم، سوف يكتمل نحو الذروة عندما يختتم الفيلم، على مشهد السنارة وهي تعود مرة أخرى إلى البحر في لقطة تحمل الكثير من الدلالات والرموز التي تعلي من قيمة المقاومة الداخلية، وتنتصر لحرية الإنسان وخياراته الشخصية، حتى ولو كانت هذه الحرية مرهونة بمعجزة!. في آخر الأفلام التي تم رصدها في مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية القصيرة، وهو فيلم (أرض الأبطال) للمخرج المولود في كردستان العراق: (ساهم عمر خليفة) يتسلل الفيلم بخفة وذكاء نحو الذاكرة الشخصية للمخرج نفسه، ونحو طفولته التي اشتبكت بالحرب العراقية الإيرانية، وما زالت ترشح بالكثير من الصور الدامية، والأخرى السريالية التي تمزج بين البراءة والعنف، وبين الحب والحرب وبين الصداقة والكراهية وكل المتناقضات الأخرى التي تقدمها الحروب على طبق من رماد!. يروي الفيلم قصة طفل ينتظر بشوق البرنامج الكرتوني اليومي الذي يعرضه التلفزيون الرسمي، ولكن البيانات العسكرية وصور القتلى وتصريحات الزعيم الأوحد المكررة والعبثية تؤجل ظهور البرنامج الكرتوني، ما يدفع الطفل إلى اختراع عالمه الوهمي الذي يشترك فيه مع شقيقته الصغرى وأحد أقربائه، ولكن هذا العالم الافتراضي المتوقع أن يكون بريئا وعفويا، يتحول إلى عالم شرس يحكمه الصراع وتفوق الأقوى، وكأن الحرب الدائرة بين الكبار أصبحت تعيش وتعشش في ميول وتصرفات الصغار، إنها الحرب إذن وعلى الجميع أن ينشغل بها، فلا صوت يعلو عليها، وعلى الأطفال أن يدفعوا ضريبة واقع قاس انحشروا فيه، وتضاعفت فيه سنوات عمرهم بلا ذنب وبلا اهتمام أيضا من صنّاع الألم ومخترعي المأساة في كل مكان وزمن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©