الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«شعراء إنستغرام»

«شعراء إنستغرام»
19 مارس 2020 00:00

عام 2018، وفي سياق تظاهرة «الشهر الوطني للشعر» التي تقام سنوياً خلال شهر مارس في أميركا، نشرت جريدة «واشنطن بوست» مقالاً حول حال هذا النوع الأدبي في بلاد «العم سام» اليوم، وصل كاتبه كريستوفر إينغراهام فيه إلى الخلاصة التالية: «الشعر على وشك الانقراض». خلاصة مقلِقة بقدر ما هي مفاجئة لمن يعرف حيوية الساحة الشعرية الأميركية التي لا يعكسها فقط عدد الإصدارات الشعرية السنوية الكبير، بل أيضاً عدد المجلّات التي تعنى بنشر الشعر حصراً ويباع معظمها في الأكشاك، وغزارة النشاطات الشعرية في المدن والأرياف معاً، وحجم جمهورها. فكيف وصل الصحافي المذكور إلى تشخيصه القاتم؟
الواضح في مقال إينغراهام هو ارتكازه كلياً على نتائج الدراسة التي أجراها «الصندوق الوطني للفنون» في هذا الموضوع مطلع العام المذكور. دراسة كان غرضها الرئيس تسليط الضوء، بالأرقام، على علاقة الأميركيين بنوعٍ أدبي يمثّل، وفقاً للشاعر الحداثي الكبير والاس ستيفنس، «التجربة المجدِّدة». وأقل ما يمكن أن يقال في المعطيات التي تقدّمت بها هو أنها غير مشجّعة، وخلاصتها: «منذ عام 2002، انحسر قرّاء الشعر في أميركا بنسبة 45 في المئة، وهذا الاتجاه الهبوطي لا يسجّل أي علامات تباطؤ». لكن المدهش هو أن عام 2019، أجرى «الصندوق» نفسه دراسة جديدة تبيّن فيها أن الشعر في أميركا يتحلّى في الواقع بشعبية قياسية، وأن عدد قرّائه المعلنين قد تضاعف بين عامَي 2012 و2018 داخل مختلف الفئات السكانية التي شملتها الدراسة، وخصوصاً لدى الشبّان والشابات (18 - 24 عاماً) الذين ارتفعت نسبتهم من 8,12 في المئة في العام 2012 إلى 17,5 في العام 2018. عودة قوية للشعر إذاً يساهم فيها بشكلٍ كبير الأشخاص الملوّنون والنساء. فأيٌّ من الدراستين نصدّق؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، نشير إلى أن مثل هذه الدراسات تطرح مشكلة تعريف. فما الذي نسمّيه فعلاً «شعر»؟ هل هو فقط النصوص المطبوعة داخل كتب ومجلات، أم أن الأمر يتعلّق بظاهرة أوسع ثقافياً يصعب تحديدها وتخيُّل بالنتيجة إمكانية تواريها؟ فبالقصائد التي تواظب على نشرها على شبكة «إنستغرام»، تمكّنت الكندية روبي كور (من أصول هندية) من أن تصبح واحدة من أكثر الشعراء شعبية في العالم (نحو ثلاثة ملايين متابِع). من جهته، حصد الموسيقي الأميركي بوب ديلان جائزة «نوبل» للآداب عام 2016 على كلمات أغنياته وأيضاً موسيقاه، الشعرية بامتياز. وفي واحدة من قصصها الحديثة بعنوان «الآن أكثر من أيّ وقتٍ مضى»، تصف الكاتبة البريطانية زادي سميث أحد وجوه موسيقى الـ «راب» الأميركية، كانييه ويست، من دون أن تسمّيه، قائلةً: «إنه أحد الشعراء الجدد، من النوع الموسيقي، وكلماته تميل إلى الذهاب إلى كل مكان، تطفو بين ناطحات السحاب، وترتفع في سماء المدينة».
وحتى في معناه التقليدي، يتمتّع الشعر في أميركا اليوم بعافية يتعذّر إنكارها على ضوء عدد كتّابه وإيقاع إصداراتهم وتنوّع اختباراتهم. وهو ما يجعل من التنبّؤات بـ «موت الشعر» في هذا البلد، كما في أماكن مختلفة من العالم، مجرّد دعابة سيئة. فأولئك الذين يقفون خلفها غالباً ما ينظرون بتحيُّز سلبي إلى الشعر، ومن مفهومه الضيّق، ويفوتهم مشهده الواسع، وبالتالي استحالة موته لأنه، مثل الهواء، في كل مكان. ولعل الأميركيين الذين يقرؤون دواوين شعرية قليلون اليوم، مقارنةً بقرّاء الروايات، لكن متى كانوا كثراً؟ في المقابل، ما يفعله عدد كبير منهم والأمر ملاحَظ في مختلف أنحاء المعمورة هو قراءة نصوص شعرية كثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي وتشارُكها مع غيرهم، مساهمين في ذلك بنشرها، وبالتالي استخدامهم إياها للتواصل مع الآخرين وفهم عالمهم ومواجهة مشاكلهم. ما يفعلونه هو تشرُّب بوسائل مختلفة تلك اللغة التي تحفر عميقاً في أنفسهم وتقول لهم الكثير ببضع كلمات، وهي تطفو أو تتراقص على شاشة حاسوبهم. وفي هذا السياق، نشير إلى جيلٍ جديد من الشعراء في أميركا يُعرَف بـ «شعراء إنستغرام» (Instapoets) لنشره في الموقع المذكور قصائد شخصية قصيرة مرفقة غالباً برسمٍ أو صورة فنية، تشكّل في مضمونها وعملية إخراجها نوعاً من الـ «سيلفي» (selfie) الشعري، وتحظى بعدد هائل من القرّاء، بغضّ النظر عن تفاوت قيمتها.

حوارات مثيرة
في الفترة الأخيرة، تجاوز الشعر الكتاب والحاسوب في هذا البلد ليبلغ شاشة التلفاز! فخلال الربيع والصيف الماضيين، بثّت قناة PBS برنامجاً مهماً بعنوان «شعر في أميركا» أحيته أستاذة الأدب الأميركي في جامعة هارفرد، إيليزا نيو، وتضمّن، إضافةً إلى سلسلة دروس كانت ممكنة متابعتها على موقع القناة الإلكتروني، سلسلة حوارات مثيرة عن الشعر مع كبار الكتّاب والفنانين والأكاديميين، نذكر منهم الموسيقي الأسمر ناس الذي تحدّث مطوّلاً عن قصيدة ويتمان «أغنية نفسي»، والمسرحي توني كوشنر الذي تناول كتاب هرمان ملفيل «صراع القَناعات»، وعميدة كلية الحقوق في جامعة هارفرد، إيلينا كاغان، التي توقفت عند شعر ماريان مور، ومؤلف موسيقى الجاز هيربي هانكوك الذي ناقش قصيدة لانغستون هيو الشهيرة «هارلم»، وقصيدة روبرت بينسكي «قميص»، والمسرحية إيف إنسلر التي قدّمت قراءة شخصية في ديوان أدريان ريتش، «الغوص في الحطام».
المثير في هذا البرنامج ليس فقط تمكّنه من تحويل الشعر إلى مادّة للجماهير، بل أيضاً تمتّعه بمرونة كبيرة في ما يتعلّق بمفهوم الشعر. وما أنجزته الأكاديمية نيو فيه، حلقة بعد حلقة، هو أيضاً ما يفعله الكثير من الشعراء الأميركيين اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي، أي صهرِ الكلمات والصور من أجل إحياء هذا النوع الأدبي وإيصاله إلى متذوّقيه بطريقة جديدة. أما النجاح الذي حصده هذا البرنامج، فيعود إلى سببين: اقتناع مخرجيه بأنه يمكن أي شخص أن يقرأ قصيدة ويتحدث في موضوعها، واحترامهم الطريقة التي يستهلك الأميركيون اليوم فيها الشعر، أي ليس فقط بعيونهم، بل بجميع حواسهم. برنامج أثبت بعدد متابعي حلقاته ما وصل إليه «الصندوق الوطني للفنون» في دراسته الأخيرة، أي أن الشعر ليس فقط بعيدا كل البُعد عن الانقراض، بل هو أيضاً قوي ويتحلى بشعبية كبيرة.
وهذا ما أكّده لنا مدير دار «غراي وولف»، جِفّ شاتس الذي نشر ثلاثة من الدواوين الشعرية العشرة التي وصلت إلى اللائحة الطويلة لجائزة «ناشيونال بوك» العريقة عام 2017، بقوله: «يشهد الشعر الأميركي حالياً نهضةً لا سابق لها». ومَن تابع الجدالات التي تمكّن الشعر من إشعالها في السنوات الأخيرة في أميركا، يعرف أن شاتس لا يبالغ في قوله، وآخرها الجدل الذي احتلّ منذ عامين الصفحات الأولى في الصحف الأميركية الكبرى وكان موضوعه قصيدة للشاعر الأميركي الأبيض أندرس كارلسون وي يقول فيها على لسان شرّيدٍ أسوَد: «إن كنتَ مصاباً بفيروس HIV، قلّ إيدز. إن كنتِ فتاةً/‏‏ قولي إنك حامِل لا أحد سيتنازل/‏‏ ويصغي إلى الركلة. الناس/‏‏ يعبرون بسرعة». جدل يعكس في احتدامه على مدى أسابيع ليس فقط عافيّة الشعر في أميركا، بل أيضاً مدى ضرورته داخل ثقافة ما زال أمامها الكثير من التأمل والنقاش حول ماهيّتها وما تريده لنفسها. ثقافة بقدر ما تبرع في استخدام المفردات كسلاح بقدر ما هي في حاجة اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى إلى حكمة الشعر وسلطة كلماته.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©