الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ندرة في الجديد.. ومراوحة أكاديمية

ندرة في الجديد.. ومراوحة أكاديمية
23 فبراير 2012
بموازاة فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان الشعر العربي الذي أقامته دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة ممثلة ببيت الشعر، خلال الفترة ما بين الخامس وحتى العاشر من الشهر الحالي، أقيمت ندوة نقدية تطبيقية بعنوان: “قراءة تحليلية في قصيدة شعرية ـ قديمة وحديثة” شارك فيها النقاد: محمد عبد المطلب من مصر متحدثا عن قصيدة “الكوليرا” لنازك الملائكة، ومحمد مفتاح من المغرب متحدثاً عن “مقطوعة شعرية للسان الدين بن الخطيب”، وسعد الدين كليب من سوريا متحدثا عن “أوجاريت” لعمر أبو ريشة، وعبد الناصر حسن من مصر متحدثا عن “واحرّ قلباه” للمتنبي، وإياد عبد المجيد من العراق متحدثا عن “وصف الذئب” للبحتري، ونبيل المحيش من السعودية متحدثا عن “الشهداء” لغازي القصيبي، ومحمد صلاح أبو حميدة من فلسطين متحدثا عن “رسالة من المنفى” لمحمود درويش، والمنصف الوهايبي متحدثا عن “إذا الشعب يوما أراد الحياة” لأبي القاسم الشابي، ونبيل قصّاب باشي متحدثا عن “بيت الشعر” لمانع سعيد العتيبة. الحال أن أغلب القصائد التي دار عليها الكلام النقدي لا ترقى حتى إلى السبعينات من القرن الماضي باستثناء نادر. فلقد قيل الكثير فيها منذ خمسينات القرن الماضي وتناولها النقد الأدبي بحثا وعصرا وتنشيفا بكافة اتجاهاته الكلاسيكية والحديثة، حتى باتت هذه القصائد من الموضوعات المغرقة في أكاديميتها وما الذهاب إليها الآن مرة أخرى سوى دلالة ضعف في الكد الذهني الذي يبذله أي باحث نقدي حقيقي. وفي الوقت نفسه فإن الاستغراق في الاكاديمية ليس عيبا نقديا بل ربما يكون معيارا إن أتى بجديد أو قام بتجديد النظر إلى تلك القصائد من وجهة نظر أخرى. غير أن القارئ لجملة الأبحاث التي تمّ تقديمها تستوقفه بالفعل الأبحاث الثلاثة التي أُلقيت في الجلسة النقدية الأولى. أدارها الدكتور أكرم قنبس وشارك فيها النقاد: الدكتور منصف الوهايبي من تونس، والدكتور محمد عبد المطلب من مصر، والدكتور محمد مفتاح من المغرب. ما يلي عرض لأبرز الأفكار الواردة في هذه الأبحاث. جرأة المخيلة إن أول ما يخلص إليه المرء عند الفراغ من قراءة هذا البحث هو جرأة الرجل الأكاديمية في المصارحة مع الذات ومع البيئة الأكاديمية العربية وليس المغاربية وحدها. أضف إلى ذلك أنه هنا يقدم أطروحة حول الشابي وليس مجرد ورقة عمل في ندوة فكرية، يقول في مستهل بحثه عن أبي القاسم الشابي وشهرته: إن “قراءة شعره قراءة رصينة، تتجرّد من الأهواء العارضة والسّمعيّات المقرّرة، تبيّن أنّه يتفاوت قوّة وضعفا، وأنّ مؤثّرات الآخرين فيه، تختلف وضوحا وخفاء. وإنّما تظافرت في هذه الشّهرة أسباب وملابسات معقّدة، ليست مقاربتنا مجالا للخوض فيها؛ ونجملها في غياب “السّلطة الشّعريّة” في نظامنا الثّقافي الرّمزي نحن عرب المغرب، وربّما في ثقافة المغرب العربي قديمها وحديثها. فقد عرفت هذه البلاد منظّرين كبارا في شتّى مجالات الفقه والفلسفة والتّاريخ والنّقد الأدبي (سحنون، ابن خلدون، ابن رشد، ابن رشيق، حازم القرطاجنّي...) أكثر ممّا عرفت مبدعين كبارا”. مع أنه هو ذاته يمثل واحدا من الأصوات الشعرية الصافية في اللحظة الشعرية العربية الراهنة. ويرى الوهايبي أن “إرادة الحياة” تمثل حجر الزاوية في الرؤية الشعرية عند الشابي بالمعنى النيتشوي للعبارة الذي يربط بين الحياة والفن، ومن هذا الباب يلج الوهايبي بصاحبه إلى الفلسفة الغربية مع أن الشابي لم يتقن سوى العربية لكن ربما يكون قد عايش أصداء هذه الفلسفة في أواخر حياته بغناها الشامل والنازع إلى رومانسية تعلي من شأن الفعل الإنساني الفردي دون أن تنزعه من روح الجماعة: “تُرى هل كانت اللّغة العربيّة في قصيدة الشّابي تسترق السّمع “من خلال” ما قرأه من ترجمات أدبيّة وفكريّة، إلى “إرادة الحياة” تعتمل في أحشاء تلك اللّغات الأخرى في فورة حداثتها؟ سؤال نتركه معلّقا، ولا نحبّ أن نتعجّل الإجابة عنه. بل نؤْثر أن نباشرالقصيدة من مداخل الشعر ومكوّناته الأساسيّة، وهل هي سوى الإيقاع والصورة وما يتعلّق بهما من نظام النحو والمعجم والتركيب؛ حتى لا يطوّح بنا التأويل بعيدا فنملي على “إرادة الحياة” ما ليس منها أو ما يجافي خاصّتها الشعريّة. وإنّي لأشدّد على عبارة “من خلال” وما يبطنه أصلها الاشتقاقي في لسان العرب؛ من معاني الوهن والضعف والفساد والتفرّق في الرأي.. فقد نتأتّى مفهوم الإرادة عند أبي القاسم عبر الفجوات التي لم تسدّها العقلانيّة، أعني فجوات اللامعقول وثغرات الحلم وانسيابات الوهم وتجنيحات الخيال. وهي ما هي في قصيدته. ولسنا نزعم بهذا الاستعانة عن تأسيس معقول بتأسيس لامعقول، فالعلاقة بينهما تجري مجرى التضمّن والإدغام، على نحو ما تجري مختلف مفارقات الوجود البشري. فهلاّ أمكن لنا عندئذ أن نختبر مفهوم الإرادة إنشائيّا، ما دام أهل الأنساق الفكريّة قد جرّوا هذا المفهوم إلى دائرة الإيديولوجيا العقيم، وبخسوه، في أحيان كثيرة، قيمته المعرفيّة؟”. ومع الاعتذار لهذا الاقتباس الطويل، إلا أن الوهايبي أيضا يعيد سلفه الشابي إلى ظرفه التاريخي بوصفه نتاجا لظاهرة تاريخية لم يكن من الممكن أن تنجب شعراء كبارا من فرط ما أن “الأصولية” مهيمنة على اللغة وسبل توجيهها أداةً للقول والمعرفة في مجتمع تسطو عليه تقاليد شفوية باهظة. وكأن إعادة النقاش حول قصيدة إذا الشعب هي فرصة لإثارة الجدل حول الأنساق المعرفية التي أفضت إلى الشابي وشهرته وتحليلها بالمعنى الأكاديمي الذي يعني تمزيق الحجب الراسخة عن ما هو مسكوت عنه أو ما يُخاف الخوض فيه. ربما يمكن القول هنا أن الوهايبي يحدد مفاصل ذات أهمية عالية ثقافيا فهذه المقاربة الفلسفية بين إرادة الحياة الرومانطيقية لدى الشابي الغاضبة على المستعمر من جهة والذات من جهة أخرى، والغاضبة على مركب السلطة والمعرفة والسلطة في الفلسفة الغربية تجد أساسها العميق في ثقافة الوهايبي ذاته وفي منجزه الشعري أيضا، أكثر مما هي في قصيدة الشابي. غير أن ما هو لافت للانتباه أكثر في بحث الوهايبي هو أنه يفرق بين النظم والإيقاع على نحو عميق مثير للانتباه يرتبط بالمرجعية الثقافية والأنساق المعرفية في سياقها التاريخي: “والنّظم إنّما هو صورة اللـّغة وهي تتأدّى بطريقة فنيّة مخصوصة، وتحمل في فعل نشوئها حيث تتجلـّى، لحظة بداءتها. وهذه اللـّحظة لا تتعلـّق بالكلام وإنّما بالكلم أو بـ”الخطاب” إذا أردنا، وهو يصنع جزءا جزءا ببنى الأثر وهي تكون. والقاعدة هنا واضحة جليّة ـ على نحو ما بيّن عبد القاهر ـ ففي هذا الشّعر الذي نحن به، ليس ثمّة من عنصر حرفا كان أو صوتا أو جرسا أو كلمة، لا ينضوي إلى فضاء النّظم الكلّي. والنّظم ـ بهذا المعنى ـ هو فعل الشّكل بعينه أي الفعل الذي يتشكّل به وفيه شكل ما. ولذلك يمكن أن نعدّه الإيقاع نفسه، لأنّ الإيقاع ليس قاعدة خارجيّة يخضع لها الشّكل الشّعريّ، أو يمكن استنباطها من هذا الشّكـل، وإنّما هو تكوّنه أو تولّده الذاتي Autogenèse. الإيقاع في النّظم والنّظم في الإيقاع. وهو أبعد من أن يكون خطّا مستقيما يحدّد وجهة اتّجاه ومقدوره، إذ لا يكون إلاّ وهو يفتتح سبيله إلى تكوّنه الخاصّ، بحيث لا يمكن تعيينه أو إحصاؤه، مادام يبتدع نظامه في كلّ لحظة من تكوّنه. وهذا ما يجعله يستعصي على أيّ نوع من الإدراك الصّوري، إذ تتظافر فيه الكتابة والتّعليق، تعليق الكلم وهو يتحرّك في خطّه الخاصّ ويتشكّل ويعلق بعضه ببعض، في تحوّل دائم”. متخذا من الشابي وقصيدته نموذجا تطبيقيا بالفعل على نحو نادر من المتعذر على اي قارئ يجد مقاربة شبيهة به، أي بين الإيقاع والنظم، في المشاريع النقدية العربية التي درست الشعرية العربية الحديثة. الوهايبي هنا يربط بين الإيقاع المتصاعد في القصيدة وما أتاحه للشاعر من مساحة لربط المعنى المطلق بالكلي والكوني وليس بالمحلي التونسي. فقد وجده منذ البيت الأول من قصيدته لا يتردد في إزاحة القيم التقليدية المطلقة: سلطة القدر وسلطة الأعراف الاجتماعية التي تنتفي الحرية والاختيار”. ثم ينتقل الوهايبي إلى تأمل لغة الشابي تأملا فلسفيا على إيقاع صلتها بالرومانطيقية القائمة على “مناهضة سلطة الدولة والعقل وإعادة تقويم العلاقة بين الإنسان والطبيعة بوصف الإنسان ذاتا فاعلة في الوجود والطبيعة موضوعا بحسب توصيف الوهايبي. منصة الدرس يشعر قارئ بحث الدكتور محمد عبد المطلب أنه فصل من كتاب أكاديمي قد أُعدَّ سلفا لقاعة الدرس النقدي الأدبي في واحدة من الجامعات أكثر مما أنه بحث يقدم إلى ندوة نقدية ذات مقاربات ثقافية اختبارية لما يجري التفكير فيه الآن، مع ذلك فإن البحث رصين ومتماسك وصادر عن عقل منفتح ودارس للحراك الشعري العربي الحديث وتحولاته. يبدأ البحث بمقدمة ذات صلة بتأريخ النقدي الأدبي أكثر مما أن له صلة بموضوع تحليل قصيدة “الكوليرا”، ويتناول ذلك الصراع النقدي الذي دار أواخر الأربعينات وطيلة الخمسينات والستينات حول القصيدة العربية وما طرأ عليها من تحولات، وهو خلاصة لما سبق للرجل أن قاله في أبحاث سابقة في شعر نازك الملائكة عموما ومنجزها النقدي وانحيازه لهذا المنجز. لكن ربما أن البحث، على ما هو عليه حقيقة، يبدأ من نهاية صفحته الرابعة عندما يربط الباحث بين القصيدة وما يسميه بمرجعيتها الشعرية التي يصفها بأنها ليست بالضرورة مرجعية تجريبية، إلى أن يقول: “المسلك الذي سلكته الشاعرة في كتابة قصيدة الكوليرا، يمثل توثيقا للعودة إلى الحالة الشعرية التراثية، وبخاصة (حالة الوقوف على الطلل)، ولا يتنافى هذا مع طبيعة البيت الذي لجأت إليه للتفرغ لكتابة القصيدة، لأنه كان بيتا تحت الإنشاء، ذلك أن البيت بحالته قريب من البيت الطللي في مظهره الناقص، ثم تأكد هذا القرب بخلو البيت من البشر، لأن اليوم كان يوم عطلة من العمل، وخلو البيت على هذا النحو يوازي خلو الطلل من البشر بعد أن هجره الأهل والأحباب، وهذا المظهر البيئي للطلل، تحول إلى مظهر اجتماعي بفعل الرحيل والافتراق الذي يباعد بين الأحباب والأصدقاء”. لكن من المثير للاستغراب هذا الإفراط في التأويل بالفعل، أليس هناك أي منهج آخر للمقاربة بين كتابة قصيدة في بغداد عن انتشار وباء الكوليرا في مصر سوى هذا المنهج “الطللي”؟ ولا يدري المرء بأي حال كيف وقفت نازك الملائكة في بغداد على طلل الصعيد المنكوب لأنها ذكرت أن هذه القصيدة قد كتبتها في بيت مجاور لبيتها ما يزال قيد الإنشاء والتعمير بحثا عن عزلة خاصة بعيدا عن صخب البيت وساكنيه؟ الموسيقى.. شعراً وعلماً أما الدكتور محمد مفتاح فينطبق على بحثه ما ينطبق على بحث الوهايبي لجهة الاجتهاد في اجتراح أطروحة خاصة لكنه منذ السطر الأول للبحث يذكر ما هو مثير للانتباه إذ مثلت هذه الممارسة التطبيقية بالنسبة له فرصة إضافة تطبيقات متنوعة على مفاهيم تمّ تقديمها في عمل نقدي سابق، ما يجعل المرء هنا يفهم أن النص هنا ذريعة إثبات لمقولة سابقة عليه وليس استنباطا لمقولة نقدية من نص سابق على النقد، أي أنه يعكس العلاقة الجدلية بين النص الشعري والنص النقدي. في أية حال يبني مفتاح “أطروحة بحثه على أطروحة/ مفهوم مُتَعالٍ هو الشِّعْسيقي؛ ويعني أن الشعر/ الموسيقى متداخلان مندمجان كاللّحمة والسَّدَى في المكونات البيولوجية، والعصبية، والعصبية النفسانية؛ على أن هذا الاندماج لا يعني التماهي المطلق، لأن هناك مكونات وعناصر تُميز الشعر عن الموسيقى أبْرَزَها كثير من الباحثين؛ ومُراعاة منّا للمشترك والمختلف، في آن واحد، فإننا نَحَتْنا المفاهيم الآتية: الصَّوْمَتَة، والنَّحْلَحَة، والْعَنْدَلَة، لتبيان تداخل الصوت والصمت، والنحو واللحن، والْعَنْيِ والدلالة، في الشعسيقي”. ثم يقوم بتحليل كل مفهوم يشتقه ضمن سياقين: يتصل الأول منهما بالبنية الموسيقية للشعر العربي بأكثر اتجاهاته التصاقا بما انجز الخليل بن أحمد الفراهيدي وتلامذته، فيما يتصل الآخر بعلم الموسيقى الحديث بالمعنى المحض للكلمة، وذلك ضمن إطار نظري معقد بالفعل ويحتاج من قارئه الإلمام الجيد بعلم الموسيقى بحيث يتسنى له الإصغاء إلى ما يقوله محمد مفتاح في بحثه وليس ما يكتبه فحسب، وهو أمر شاق ولا طاقة لكاتب هذه السطور على فهمه حق الفهم سوى بالإشارة والإلماح والممكن فحسب. باختصار إن بنية هذا البحث هي بنية كتاب معدٍّ وناجز. بحسب قصائد مهرجان الشعر العربي هل يصرخ الشعر من الألم؟ هل قُدِّرَ للشعر العربي أنْ يكون جماهيريا في يوم ما كما هي حاله الآن؟ أي هل جرى تداوله في أوساط وشرائح اجتماعية مثقفة و/أو شعبية بحيث باتت “العامة” تحفظه؟ هل ساءل الشاعر العربي الشعرَ نفسَه، يوما ما، عن جوهره؟ أي هل ساءل الشاعر نفسه عن “هويته” بعيدا عن وظيفة الشعر وأغراضه المُعَدَّة له سلفا؟. واقع الأمر أنه لا دليل ماديا بين أيدينا على ذلك بل هي تأويلات أحداث وروايات كانت في الأصل شفوية الطابع. لكنْ قبل استكمال اقتراح الإجابة عن سؤال بهذا العمق، إلى حدّ أنه يطال جوهر الفن إجمالا وليس الشعر وحده، يجد المرء نفسه مصابا بدوار من فرط إلحاح سؤال سابق عليه ويتبدى جليا للواحد أينما ولّى وجهه: هل يمتلك أحدنا “ترف” طرح مثل هذا السؤال في اللحظة العربية الراهنة؟ بمعنى آخر: هل من الممكن أن يتصالح التساؤل والواقع في منطق ما، هو هنا منطق شعري؟ للحقيقة وجهان في جاري العادة، فالوجه الأول: إما أنْ ينشغل الشعر في اللحظة الراهنة ويصبح عبدا لسيّده الواقع، فيمتلئ بصراخ لا يستمع إليه أحد إلا ما ندر، بل ربما يصبح وَعِرا من فرط ما يتوفّر على جدران من المعنى المعنى المباشر التي تعطل مخيلة التلقي ولا تدع الصور تتنفس أوكسجينا نقيّا، وإما أنْ ينشغل بذاته ويعيد النظر في مجمل خطابه وتوجهاته وموقع الفرد منهما، فينأى وينأى. والوجه الثاني: أن التقنيات الحديثة في وسائل الاتصال من جهة وتطوّر مفهوم المثقف في العصر الراهن لجهة علاقته بالواقع وما يجري فيه ومسؤوليته الأخلاقية تجاهه وضرورة نقده بجرأة ومكاشفة وقاحته وصفاقته بوقاحة وصفاقة معادِلَتَيْن قد جعلت الشاعر يتصرف كما لو أن ما يجري لا يجري حوله فحسب بل يجري فيه وله. هنا قد يستعير الشاعر أدوات الكاتب ـ أو كاتب المقالة الصحفية أو حتى قد يظهر على شاشات التلفزيون في محطّات لا يتابعها أصلا ـ ويقدّم نوعا من “التنازلات” غير الجوهرية وغير المعرفية في سبيل دفاعه عن قضية ما أو في سبيل المجاهرة بموقف محدد وذلك في سياق “قرار سياسي” شخصي يكون هو قد اتخّذه بنفسه ضمن رؤية ثقافية جامعة يرى من خلالها العصر الذي يعيش فيه. إنّ المرء إذ يقلّب أمر شاعرٍ ما يجد نفسه أمام “فكرة” أخرى غير معهودة من قبل لدور الشاعر كما هو عليه الدور والوظيفة في الأدبيات الكلاسيكية للنقد الشعري العربي، فقد تحوّل الشاعر من الناطق باسم الجماعة، أو من “المفرد بصيغة الجمع”، كما هو عنوان أحد دواوين أدونيس، إلى توجيه النقد الشرس لهذه الجماعة إنما ليس ببعيد عن تعقيدات معرفية وسياسية واجتماعية بل وحتى شعرية شديدة الاختلاط وتحتاج إلى قَدْر كبير من الدهاء والمزايا الشخصية التي لا تتوفر لشعراء كثيرين، إنها تحتاج إلى بوصلة من نوع خاص لم يتمّ اختراعه ولن يحدث ذلك لأنها بوصلة جوّانية جدا. والأرجح أنه لم يكن لهذا التحول العميق في شخصية الشاعر العربي أن تحدث لولا هذا الإحساس بالذات وتشكّل الشاعر في المجتمعات العربية الحديثة بوصفه فردا قادرا على أن لا يستجيب لما هو خارج عن قناعاته ولما هو ضاغط على وجدانه وضميره الأخلاقي وإحساسه بالمسؤولية تجاه ما يجري حوله. يحدث ذلك في لحظة يبدو فيها “العقل العربي” غير قادر على استيعاب ما يحدث من حوله. فإذا كان الأمر هو كذلك بالنسبة لشعراء لديهم منابر تفتح لهم أبوابها ليقولوا ما يودون أن يقولوه، وهم كثُر ويعيشون خارج المنطقة العربية واستقطاباتها السياسية الحادة غالبا، فماذا سيفعل الشعراء الأفراد في تلك المجتمعات التي ما تزال لا تعترف بفردية الفرد وبحاجته إلى التعبير عن ذاته بأدوات أخرى غير تلك الأدوات النمطية التي يمتلكها الشاعر؟. وعَوْدٌ على بدء، هل تسنى طرح مسألة جماهيرية الشعر. الإجابة الأكيدة: لا. فالراهن ضاغط على العصب الحسّاس لهذه اللحظة ومؤلم إلى حدّ أنه لا يسمح بترف من هذا النوع. إذن لندع الشعر ينشغل بنفسه. إذن لندع الشعر ينشغل بسواه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©