الثلاثاء 21 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

غابة الفيلسوف

غابة الفيلسوف
16 يناير 2020 00:10

 موضوع مقالي هذا هو النظر في صلة الرؤية الفلسفية بالمكان الذي احتضن نشأة الفيلسوف أو أسلوب عيشه. وعلى الرغم من أن هذه الصلة نجدها حاضرة بقوة لدى كثير من الفنانين والأدباء، فإنها لا تتحقق إلا لدى بعض الفلاسفة، بصورة ما أو بأخرى. أما حضورها الأعظم والطاغي لدى الفلاسفة المعاصرين، فيتمثل لدى مارتن هيدجر: فيلسوف الفكر في صلته الحميمة بالوجود وبالعالم الذي يعايشه الإنسان.
وأهمية هيدجر هنا لا تكمن فحسب في حضور هذه الصلة في فكره، وإنما تكمن أيضاً في أنه يتأمل هذه الصلة ذاتها، على نحو ما نجد ذلك في مقاله القصير بعنوان: «وحدها الغابة السوداء تلهمني»! وعلى هذا، فإننا سوف نسعى هنا إلى بيان تأثير «الغابة السوداء» - التي عاش فيها هيدجر معظم حياته - على فكره. وأنا أستخدم هنا كلمة «الفكر» بدلاً من كلمة «الفلسفة»؛ لأن هيدجر نفسه يفضل وصف إسهاماته الإبداعية بكلمة «الفكر» أو بمعنى أدق: «بفكر الوجود».
فوق جبال الغابة السوداء يقع كوخ هيدجر، وحيداً، تحوطه الأشجار العتيقة. ولقد أفاض كثير من الباحثين في وصف الكوخ وتاريخه:
يرجع تاريخ إنشاء الكوخ إلى سنة 1922، وهو يقع على مقربة من قرية تعد الآن مكاناً سياحيّاً يتميز بوجود أعلى شلال، فضلاً عن أماكن للتزلج على الجليد. الكوخ مصنوع من الخشب، مساحته 6x7 متراً مربعاً، ومؤلف من ثلاث غرف: غرفة المطبخ التي هي أيضاً غرفة المعيشة، وغرفة نوم، وغرفة مكتب. لا يشكل هذا الكوخ بناءً معماريّاً، ولكن آدم شار في كتابه «كوخ هيدجر» (Adam Scharr, Heidegger’s Hut)، يتناوله باعتباره مقراً أو مسكناً كتب فيه هيدجر النصوص الفلسفية التي أصبحت حجر الأساس بالنسبة إلى النظرية المعمارية الخاصة بالفترة المتأخرة من القرن العشرين. والواقع أن التأملات حول الكوخ تثير تساؤلات عديدة: ألم يكن الكوخ مرتبطاً بتأمل هيدجر لمعنى السكن أو «الإقامة» dwelling؟ ألم تكن فكرة الإقامة في الكوخ مرتبطة بنبذ هيدجر لعملية التحديث والبناء التي بدلت حياتنا اليومية؟ ومن ثم بنبذه للتكنولوجيا المرتبطة بهذا التحديث، والتي جعلت الإنسان «موجوداً في كل مكان دون أن يكون في أي مكان» (أي لا يوجد وجوداً حقيقيّاً)؟
إن الكوخ الفعلي لهيدجر يعد حدثاً فلسفيّاً مثلما هو حدث معماري. وهنا ينشأ السؤال عن العلاقة، لا فحسب بين الفلسفة والجغرافيا، وإنما أيضاً بين الجغرافيا والإبداعية. وعلى هذا يمكن أن نسأل عن طبيعة العلاقة التي توجد بين الجغرافيا- حينما ننظر إليها باعتبارها مكاناً للكتابة- وبين ذلك الفعل الذي يجمع الكتابة والتفكير معاً. وهذا النوع من الطرح ليس نوعاً من الفكر المجرد، وإنما نجد شواهد عليه من تاريخ الفلسفة ذاتها: فهل يمكن على سبيل المثال تصور شذرات هراقليطس بمنأى عن معبد دلفي ومعبد أبولو على سفح جبل برناسوس؟ هل يمكن الفصل بين أسلوب كتابة شذرات هراقليطس ونبوءات الآلهة التي ينبئ بها كهنة معبد دلفي؟
إن ذلك كله يطرح التساؤلات عن الصلة بين أسلوب التفكير وبين أسلوب الحياة في الريف، لا المدينة أو الحياة الحضرية. إن افتتان هيدجر بالغابة السوداء هو ما جعله يرفض عرضًا مغرياً- في سبتمبر 1933- بتعيينه أستاذاً لكرسي الفلسفة في جامعة برلين. ولقد رفض هيدجر هذا العرض بشكل مهذب من خلال مقال يعد بمثابة قطعة أدبية فلسفية، وربما يليق هنا أن أقتبس شيئاً منه في السطور التالية:
- «... هذا هو عالم عملي كما تراه عينا المصطاف والضيف العابر المحب للتأمل. أنا نفسي لا أتأمل المنظر الطبيعي المحيط بي بالمعنى الحقيقي للكلمة. أنا أحس تحولاته من ساعة إلى أخرى، ومن الليل إلى النهار، خلال تعاقب الفصول».
- «حينما في ليل الشتاء العميق تنفجر عاصفة ثلجية حول البيت، وتأخذ في تغطية وموراة كل شيء، عندئذ يبدأ زمن الفلسفة. وعندئذ لا بد أن يصبح سؤالها بسيطاً وأساسيّاً».
- «المدينيون يندهشون أحياناً لعزلتي الطويلة والرتيبة في الجبال وبين المزارعين. غير أن ما أعيشه ليس العزلة، وإنما الوحدة. في المدن الكبيرة، بإمكان الإنسان أن يكون منعزلاً أكثر مما في أي مكان آخر، وبسهولة متناهية. غير أنه لا يستطيع أن يكون وحيداً البتة. ذلك أن الوحدة لها نفوذ متميز تماماً في ألا «تعزلنا»، ولكن بالعكس، في أن تُلقي بحياتنا كلها بجوار جوهر كل الأشياء.
هناك، أي في المدن، بإمكاننا أن نحصل على الشهرة السريعة من خلال الصحف والمجلات. وهذا هو الطريق المؤكد للسقوط بسرعة في هاوية النسيان.» هيدجر («وحدها الغابة السوداء تلهمني»، مجلة فكر وفن، العدد 47، سنة 1988).
لهذا انتهى هيدجر إلى رفض العرض المقدم له، وهو الرفض الذي قرأه في عيني أحد أصدقائه من المزارعين الذي عبرت نظرته وإيماءته عن القول: لا، لا قاطعة. والحقيقة أن هذا المقال الأدبي الفلسفي البديع ينبغي أن يُقرأ كاملًا؛ لأنه نص يضيف كل سطر فيه إلى المعنى المكثف الذي يعبر فيه هيدجر عن طبيعة التفلسف عنده المرتبط بأسلوب حياته المعيشة وعالمه اليومي.

دروب الغابة ودروب الفكر
لعلنا نلاحظ أن كلمة «الدرب» Weg تتكرر كثيراً في كتابات هيدجر، بل إن بعضاً من كتبه الأساسية تنطوي على هذه الكلمة، مثل: كتابه بعنوان «دروب الغابة»، وكتابه المتأخر بعنوان «على الطريق نحو اللغة». ولا شك أن الكلمة الألمانية Weg تعني الطريق مثلما تعني الدرب؛ ومع ذلك فإننا نفضل استخدام كلمة الدرب حينما نكون بصدد وصف فكر هيدجر أو وصف مسارات الغابة. لماذا؟ أو لنتساءل بعبارة أخرى: ما الفرق بين ظلال المعنى في كلتا الحالتين؟
المعنى الذي توحي به كلمة «الطريق» هو المسار المحدد المعلوم الذي غالباً ما يكون ممهداً، بحيث يُفضي في النهاية إلى وجهة معينة محددة سلفاً. ولكن هذا المعنى يجافي فهمنا لمعنى «الطريق» عند هيدجر؛ ولذلك فإنه من الأصوب أن نستخدم كلمة «الدرب» بدلاً من كلمة «الطريق»: فالدرب «يوحي دائماً بمعنى الطريق الملتف، فهو ليس مساراً ممهداً ومحدداً وجهته سلفاً، بحيث نعرف وجهته التي يقودنا إليها. إن معنى المسارات الملتفة هو خصيصة أصيلة تمييز دروب الغابة، مثلما تميز الطرق الوعرة غير الممهدة في السهول والجبال، وفي مسارات حقول الريف الشاسع. الطريق هنا يعني بدقة كلمة «المَدَّق»، وهي كلمة تعني الطريق الذي يتشكل من خلال وقع أقدام السائرين عليه. والحقيقة أن فكرة العلامات على مسار الدرب تميز معنى «الدرب» في مسارات الطرق الملتفة في عمومها، ولكنها تتجلى على أوضح نحو في مسارات الغابة. فنحن عندما نسير في الغابة نجد أنفسنا بإزاء مسارات متعددة متشعبة تشبه المتاهة؛ ولذلك فإن مسارنا فيها يشبه عملية اكتشاف باستمرار، ونحن نضع علامة عند النقاط التي سرنا فيها، كي لا نتوه عبر دروبها.
والحقيقة أنه مما له دلالة بالغة أن يعنون هيدجر أحد كتبه الشهيرة تحت عنوان«دروب الغابة»: ففكرة الالتفاف، ومن ثم المتاهة، حاضرة في هذا العنوان، مثلما هي حاضرة في مضمون الفكر الذي يندرج تحته. فنحن لا نعرف مسبقاً المسار الذي يأخذنا فيه الدرب؛ ولذلك فإننا نضع علامة ما كلما سرنا في الدرب الذي ينفتح على غيره من الدروب والمسارات؛ حتى إن الدروب لتبدو أشبه بالمتاهة. ولا شك أن مفهوم «المتاهة» حاضر بقوة في المعنى الذي يريد أن يُوحي به هذا العنوان: فمهمة الفكر عند هيدجر تقوم على نوع من «الدور في الفهم» Zirkel im Verstehen، أي على نوع من الفهم الذي يبدأ من تفسير ينفتح على تفسيرات تالية، لنعود إلى التفسير الأول وقد استضاء بنور جديد. فمسار الفكر، إذن، هو نوع من التجربة الحية التي نعاني فيها شيئاً ما، إنه خبرة يحدث لنا فيها شيء ما، ونشعر بالمتاهة: متاهة الأسئلة التي تنفتح على أسئلة غيرها من خلال هذا الفهم الدائري. ولكن الفهم عند هيدجر يبدأ بالضبط عند حدوث هذا الدور والشعور بالمتاهة والحيرة... عندما تنهار أدواتنا التقليدية في المعرفة، وينهار يقيننا المسبق، وهو ما يعني زعزعة الأساس الذي نقف عليه أو نستند إليه، وهذا العملية تُعرف باسم «التقويض الفينومينولوچي». وبوسعنا أن نقدم في هذا الصدد العديد من الأمثلة التطبيقية المستمدة من كتابات هيدجر، ولكن غرضنا هنا ليس شرح شيء من فلسفة هيدجر، وإنما بيان ارتباط نصه ولغته الفلسفية بأسلوب حياته ووجوده المعيش.
ولأن مفهوم «المتاهة» متضمن في عنوان كتاب «دروب الغابة» سالف الذكر؛ فقد مال أستاذنا المرحوم زكريا إبراهيم إلى ترجمة عنوان الكتاب إلى «متاهات»، حينما كان يشير إلى هذا الكتاب. ولكني أرى أن هذه الترجمة- على وجهاتها- تغفل الإيحاءات وظلال المعاني الأخرى المتضمنة في كلمة «الدرب» عند هيدجر والتي أشرنا إلى بعض منها؛ كما أنها تُسقِط كلمة «الغابة» بشتى إيحاءاتها الوجودية عنده!

هيدجر ومفهوم الأرض
مفهوم غامض يحمل طابعاً صوفيّاً، خاصة حينما يتحدث عن علاقة الأرض بالعالم. ولكن فهم علاقة هيدجر بالغابة السوداء يحل لنا كثيراً من إشكاليات الفهم المتعلقة بهذا المفهوم الغامض. يتحدث هيدجر عن الأرض ممثلة في عالم الأشياء المحضة الذي يفرض حضوره علينا: الأحجار والحصى والطين والأشجار، إلخ. والحقيقة أن فهم هيدجر لمعنى «الشيء المحض»، وهو فهم قد استفاده من طول تأمله لعالم الأشياء في الغابة السوداء: فالشيء المحض ليس مادة مشكلة في صورة، ولا هو مادة لها غرض أداتي من وجودها، كما هو الحال في الشيء الأداتي؛ لأن مثل هذه المقولات الأرسطية تظل تعميمات لا تفسر لنا أسلوب حضور كل شيء بذاته باعتباره أسلوباً فريداً من الحضور في العالم.
ومهما حاولنا تحليل طبيعة الأشياء المحضة وفقاً لطرائق العلم (من خلال إحصائها ووزنها وتفتيتها)، فإننا لن نصل إلى شيء عن حقيقة الشيء. ولا شك أن عالم التقنية المعاصر قد حجب عنا الخبرة بعالم الأشياء التي لا يمكن أن نلتقيها إلا في عالم يشبه الغابة السوداء.
إن ارتباط هيدجر الفلاح بالغابة السوداء هو ارتباط بالأرض، وطبيعة الأرض مرتبطة بطبيعة الأشياء المحضة التي تبقى «متحجبة»، بحيث تستعصي على التحليل والقياس، وتبقى على النحو الذي تكون عليه. فقط الفنان هو الذي يستطيع أن يكشف عن حقيقة الأشياء المحضة وغيرها، حينما يكشف لنا عن عالمها، أو عن الأفق الذي تنتمي إليه. وفي ضوء هذا يمكن أن نفهم تأويل هيدجر للوحة فان جوخ «حذاء الفلاحة»، باعتباره حذاء ينتمي إلى الأرض والطين، ومن ثم يكشف أو يتكشف فيه عالم الفلاحة من خلال عمل فنان.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©