الأحد 19 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كرة القدم··· حس وطني جديد في أوروبا

كرة القدم··· حس وطني جديد في أوروبا
5 يوليو 2008 02:32
ذات يوم قال الراحل ''آرثر كوستلر''، الذي ولد في ''بودبست'' وعاش في عدد من البلدان وكتب بلغات مختلفة: هناك الوطنية وهناك الوطنية الكروية· والواقع أن المشاعر التي تثيرها هذه الأخيرة أقوى وأكبر· يصعب على الأميركيين أن يفهموا ويدركوا مدى تهيج مشاعر المواطنين الأوروبيين حينما تتنافس دولهم على بطولة أوروبا لكرة القدم كل أربع سنوات· فعلى مدى عدة أسابيع هذا الصيف، غصت الملاعب في النمسا وسويسرا، ناهيك عن شوارع العواصم الأوروبية، بالأعلام الوطنية وغُنيت الأناشيد الوطنية· كما كان فوز إسبانيا يوم الأحد الماضي في مباراة النهاية واحدة من المناسبات النادرة التي احتفل فيها ''الكاتالونيون'' و''القشتاليون'' و''الباسكيون'' والأندلسيون معاً بفوز منتخب بلدهم في مظهر من مظاهر الفرح والفخر الوطنيين· ذلك أن كرة القدم، وأكثر من أي رياضة أخرى، تثير المشاعر القبلية : الجهود الجماعية، ألوان الفريق، السرعة، القتالية· فكما قال مدرب هولندي مشهور لكرة القدم ذات مرة، فإن ''كرة القدم حرب''· والحال أنه لم يكن من المفترض أن تكون كذلك· فبعد حربين عالميتين، أضحى إظهار الحماس والتعصب الوطنييْن من المحرمات تقريباً في أوروبا بعد أن حُمّلت الوطنيةُ مسؤوليةَ تدمير القارة العجوز تقريباً· ذلك أن الوطنية حين تكون مفرطة، ولاسيما إذا كانت مصحوبة بفخر المحارب -وهو أمر مازال يعتبر عادياً في الولايات المتحدة- اقترنت لوقت طويل بالمذابح الجماعية· فالإنجليز، الذين نجوا من احتلال قوةٍ معادية ومازالوا يعتقدون أنهم فازوا في الحرب العالمية الثانية وحدهم (على أي حال، بمساعدة صغيرة من الأميركيين)، مازالوا يتصفون بنوع من ''العسكرانية''، وهو ما يفسر ربما العدائية والتعصب اللذين يشتهر بهما أنصار كرة القدم الإنجليز· ومع ذلك، وعلى الرغم من خبو المشاعر الوطنية والقومية في المجتمع عبر أوروبا، فإن المشاعر القبلية المحظورة مُنحت متنفساً في ملاعب كرة القدم· هذه المشاعر يمكن أن تكون احتفالية، مثلما هو الحال في بطولة كأس أوروبا ،2008 ولكنها يمكن أن تحتوي أيضاً على شيء أكثر دكنة، شيء أكثر عدائية واقتتالية، ولاسيما عندما تكون المعركة الرياضية جياشة بالذاكرة التاريخية· فالمباريات بين هولندا وألمانيا، على سبيل المثال، أو ألمانيا وبولندا كانت تميل، حتى عهد قريب، إلى أن تكون أشبه بإعادة لأطوار الحرب- إعادة حزينة للهزيمة خلال الحرب أو ثأر حلو· ولأسباب بديهية وواضحة، اعتُبرت المشاعر القبلية للألمان بصفة خاصة خطيرةً وسامة بعد الرايخ هتلر، وهو ما يفسر لماذا كان التلويح بالعلم الألماني ورفعه يتم حتى عهد قريب بشكل محتشم وبنوع من الإحساس بالعار الغائب في البلدان المجاورة· ومع ذلك، فإن الألمان أيضاً لا يستطيعون مقاومة هذه المشاعر الجياشة وإخفاءها؛ فالألمان من كبار السن مثلاً مازالوا يتذكرون فوزهم الشهير على المنتخب الهنغاري الذي كان يحسب له ألف حساب عام ·1954 فقد كانت تلك المرة الأولى التي استطاع فيه الألمان منذ هزيمتهم في الحرب أن يشعروا بالفخر· وعلى غرار كل شيء في الحياة، تتغير أشكال الوطنية مع مرور الزمن، كما أن أسباب الفخر الوطني تتنوع· فعندما فازت فرنسا بكأس العالم في ،1998 كان يحلو للفرنسيين أن يشيروا إلى التنوع العرقي في منتخبهم· فنجمهم، زين الدين زيدان، جزائري الأصل، بينما ينحدر لاعبون آخرون من أماكن مختلفة من إفريقيا· وهكذا، قُدمت تعددية الفريق العرقية ليس إشارة إلى ماض كولونيالي طويل -ودامٍ في أحيان كثيرة- وإنمـــا إلى التفوق الوطني الذي يعد إحدى ثمار التسامـــح الذي جـــاء به ''قرن الأنوار الفرنسي'' وإخاء الثورة الفرنسية· بيد أن الفرنسيين كانوا يمهدون لشيء أكبر في وقت كان فيه شيء عميق بصدد التغير في أوروبا، ببطء وبألم وبثبات في آن واحد· ذلك أن التنوع العرقي شمل أيضاً الأندية التي تستطيع جلب اللاعبين من أي مكان في العالم، وهي التي كانت من قبل تمارس الولاء القبلي وفق العرق أو الدين· فمن كان يتوقع قبل ثلاثين عاماً أن الأنصار الإنجليز سيشجعون فريقاً لندنياً لكرة القدم يضم في صفوفه أفارقة وأميركيين لاتيينين وإسباناً، يدربهم مدرب فرنسي؟ بيد أن التنوع العرقي والثقافي ليس التغيير الوحيد الذي طال وجه كرة القدم الأوروبية· إذ لم يسبق لي أن رأيت في حياتي تناغماً بين أنصار ومشجعي دول مختلفة مثل ذاك الذي رأيته في بطولة هذا العام· فالاحتفالات التي سادت -رفع العلمين التركي والألماني جنباً إلى جنب في شوارع ألمانيا عندما التقى المنتخبان في مباراة نصف النهاية، والاحتفالات الألمانية الاسبانية المشتركة بعد مباراة النهاية- كلها أمور تشير إلى شيء جديد· على أن ذلك لا يؤشر إلى أن الوطنية بصدد الزوال، حتى في وقت يشهد ولادة روح أوروبية جديدة، وإنما، على الأقل، إلى أن الهويات الوطنية في أوروبا لم تعد موشومة بذكريات الحرب· فاليوم، لم يعد أحد يتضايق كثيراً عندما تفوز ألمانيا، مثلما يحدث في أحيان كثيرة، حيث بات الألمان اليوم ألطف بكثير بحيث يستحقون ذلك· ومع ذلك، فعليَّ أن أعترف بأنني لم أستطع التغلب على شعور بالابتهاج عندما انهزمت ألمانيا أمام إسبانيا؛ ربما لأن إسبانيا لعبت بشكل أفضل، وربما لأن ذلك إنما يعكس سني· أيان بوروما أستاذ حقوق الإنسان بجامعة بارد كوليدج ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©