السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الحداثة.. بحث دائم عن المعنى

الحداثة.. بحث دائم عن المعنى
18 يوليو 2019 03:16

محمد نور الدين أفاية

يتطلّب تناول موضوع الحداثة التساؤل عن موقع التفكير والفكر في مختلف حقول الممارسات الثقافية في العالم العربي. ذلك أن المثقف العصري في تاريخنا الثقافي ظاهرة لها وجود مُعلّق، بحكم أن مجتمعنا، باعتباره سؤالا ثقافيا وحتى فنياً، وجد نفسه محاصراً ببنية ثقافية كثيراً ما تستبعد المغامرة الإبداعية أو تتبرّم منها وتعترف، في الغالب الأعم، بما يمجّد التكرار وينخرط في المعايير والنماذج التي تستريح لما يكفل إعادة الإنتاج والاطمئنان إلى المألوف.
يلاحظ أغلبية الباحثين والمفكّرين القوة الهائلة التي امتلكتها وتمتلكها الثقافة الأصولية والقدرة التي تحوزها على الاستمرارية والتجدد، بحيث تستطيع، في كل مرة، تغليب الماضي على الحاضر. وهذا ما ولّد ثقافة نخبوية ذات بنية استنساخية، ومخيلة تكرارية (على عكس المخيلة الإبداعية)، بل وحين نعثر على نزوعات فكرية وإبداعية تحتفل بالذات، حتى ولو كانت بطيئة وغير ذات مفعول كبير في الوجدان والوعي، فإنها غالبا ما تواجه صعوبات في خضم التقليد الجارف، أو تجد نفسها «تتفاوض» على مقاييسها ومبادئها بل وعلى لغتها وخيالها.

اختبارات
اختُبرَت محاولات تحديثية متنوعة طيلة عقود القرن الماضي وبدايات هذا القرن، حيث انطلقت حركة التأليف في تاريخ الأفكار والرواية، والشعر الحديث، والنقد، والمسرح، والتشكيل والسينما.. وعملت نخبة «تنويرية» على التعبير عن نوع من «الذاتية في بحثها عن الإثبات» والاعتراف مُتشوفة إلى الرقي والنهضة. غير أن هذه النزوعات تعرضت وتتعرض للإجهاض والتشويش بسبب مختلف أشكال العنف والاستبداد المقنّع بالتقليد. وأعتبر أن الحرب التي خيضت ضد النزعات التحديثية التي عبّر عنها عدد لا بأس به من المثقفين والمبدعين العرب، ما زلنا نؤدي بسببها ثمنا باهظا إلى اليوم، لأنه لا مجال لتصوّر الإبداع من دون اعتباره تبرمًا من الممنوعات التي تسحق، بشكل واع أو لا واع، الروح الإبداعية.
ولأن المجتمعات العربية أضاعت فرصا تاريخية لبناء ذاتية مبدعة، فإننا نلحظ، اليوم، كيف استأسدت الاتجاهات الداعية إلى منع التفكير والفن والإبداع، والحد من التفكير العقلاني، ومحاصرة المخيلة الابتكارية. لاشك في أنه منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي شهدت مقدمات ومقومات حركية فكرية عصرية لافتة و«محاولات سردية وخيالية» جديدة، وأشكالا متجددة في الكتابة، في الفلسفة والرواية والشعر والسينما والموسيقى والنقد... حيث برز جيل جديد مُبتكر من المثقفين والباحثين، كما انخرطت النساء في معمعة الكتابة والتأليف في عالم كان حكرا على الذكور، تمكنت من تفجير غضبهن وقلقهن ومكبوتاتهن التي تراكمت مع الزمن، وجثمت على عقولهن وأجسادهن، واخترن فعل الإدانة لمختلف أشكال القهر بالإبداع والكتابة.
لا جدال في أن المثقفين العرب دخلوا، بالفعل وبالرغم من كل أشكال الارتكاس والتقليد، في أفق فكري مُبدع، يمثله، على الأقل، جيلان من المفكرين والكتاب والمبدعين، مستلهمين، في ذلك، مرجعيات الفكر النظري المعاصر، ومنخرطين، كل حسب اختياراته الفكرية، في معمعة التفكير والسؤال والكتابة. نجد من بينهم من واجه تمظهرات الحداثة الفكرية من خلال استحضار جملة تحولات تهمّ كيفيات التفكير في مهام الفكر ذاته، سواء تعلّق الأمر بالتفكير في المجتمع وفي تعقيدات الروابط الاجتماعية وفي قضايا الدولة، وفي العائلة وما تفترضه من أسئلة تهم القرابة، والحب، والحياة الحميمية، وما تتطلّبه من إعادة النظر في العلاقة بالجسد، والحياة، والهشاشة، بحيث إن الفرد الحالي أصبح يتقدّم من خلال وجهين متعارضين: الفرد العقلاني، القوي، الكفؤ، وأحيانا السعيد، والوجه الضعيف، الهشّ، والضحية. وهو ما يقتضي التساؤل عن معنى النضج، ومعنى الشباب، والاستقلال الذاتي، وأين يبدأ وأين وكيف ينتهي؟

ظواهر
من جهة أخرى، استلزم التساؤل عن إمكانية استدعاء الحداثة إعادة التفكير في التراث وفي الظاهرة الدينية، وفي عودتها المُدوية، وفي الكيفيات التي تطورت مختلف تعبيراتها في سياق زمن العالم، ولا سيما في مظاهرها المتشددة والقاتلة؟ وكيف نفهم الميولات المختلفة التي تتحرّك من أجل انتزاع الاعتراف بمقومات الانتماء لزمن العالم، سواء تعلق الأمر بالمعرفة، بالنساء، أو المدينة، وما يضمره غياب هذا الاعتراف من احتقان سيكولوجي في العلاقات الاجتماعية، كما هو الشأن بالنسبة لفئات تبدو في عرف المجتمع «غير نافعة» Inutiles مثل العاطلين، وسكان مدن الصفيح، والمرضى، والمهاجرين، أو المهجّرين، والفئات في وضعية إعاقة، وغيرها من الأوجه المأساوية التي يدرجها البعض ضمن الفئات غير النافعة.
كما طرحت، بقوة، أسئلة عن كيفيات التفكير في العنف، اليوم، وفي الأجيال الجديدة للحروب غير المتكافئة، حيث تتواجه فيها دول قوية مع دول ضعيفة، لكنها، على الرغم من ضعفها تمتلك سلاحا قويا يتمثل في «الحافز الإيديولوجي»؟
والظاهر أن مصطلح الحداثة، بسبب التضخّم الفكري والسياسي، والاحتقان الإيديولوجي المتساوق معها، كما هو الحال في بلداننا، يتداخل فيها الأسطوري بالواقعي، سيما وأنها، كما يقول بودريار، «مفهوم ملتبس يحيل على تطور تاريخي، وعلى تغيير في الذهنيات». فليس هناك معنى واحد ووحيد للحداثة، لسبب أساسي، كما يعتبر «هنري ميشونيك»، وهو أن الحداثة هي ذاتها بحث دائم عن المعنى. وعلاوة على ذلك يواجه المرء تحدّي تنوع المرجعيات، وتعدد سياقات استعمال مصطلح «حداثة»، علمًا بأنها اخترقت كل الحدود الوطنية والتخصصية.
وعلى الرغم من كون أغلب الفلاسفة والمفكرين يرون أن العقل هو «الحجة النقدية» التي تؤسس تصورهم، إلا أن بعضهم نظر إلى الذات الإنسانية بوصفها ذاتا منقسمة، مشروخة، وخاضعة، بالرغم منها، لعوامل لا يستطيع العقل التحكم في تأثيرها، منها ما يعود إلى اللاوعي والمتخيل، أو إلى لعبة اللغة والبنيات الرمزية المعقدة، كما هو حال من أسماهم «بول ريكور» بـ«فلاسفة الشك والتوجّس» ويقصد بهم ماركس، نيتشه وفرويد.
ولذلك ليست الحداثة «نظرية»، أو «مفهوما» بقدر ما تمتلك منطقًا ومعالم تميزها عن باقي التصورات التقليدية، كما يرى «جان بودريار». فهو يتصوّر أن للحداثة خصائص وأبعادا، منها، أولا، البُعد التقني/‏‏ العلمي، بما يستدعيه من ثورة في أساليب الإنتاج وتنظيمها وتسييرها، ثانيا، البعد السياسي، بحكم أن الدولة تجسّد نوعا من التعالي في صيغة منظومة قوانين، فضلا عن المكانة الخاصة للفرد وللملكية الخاصة، وللتنظيم البيروقراطي، ثم البعد السيكولوجي باعتبار أن الزمن الحديث يتميز ببروز الفرد بوصفه كائنا يحوز «وعيا مستقلا» يعمل على ترجمته في الثقافة العصرية، وذلك على الرغم من أشكال الاستلاب التي تولدها وسائط التواصل، ومجالات العمل، ومغريات عالم الاستهلاك.
لقد أنتجت الحداثة مجالا عموميا، تختلف أطره، ونمط تواصله باختلاف المرحلة التاريخية، يسمح بإبراز ظواهر وتعبيرات ورغبات وأهواء وأفكار ومعان متجددة دوما. ونسجت بذلك جدلا مستداما للعلاقات بين الذاتية والاختلاف، بين الأنا والآخر، بين الظاهر والوجود، وبين المعلن والمسكوت عنه. وقد أبرزت الأنثروبولوجيا، والتحليل النفسي أن الحداثة لا تتمثل، دائما، في كونها تغييرا جذريا، ولكنها تدخل، أحيانا، في مساومات ثقافية وسياسية مع البنيات التقليدية. فإرادة القطيعة التي تسعى الحداثة إلى إجرائها تتنازل، في الكثير من دول العالم، لما يسميّه بودريار«ب»دينامية الخلط«بين ما هو تقليدي وما هو حديث، بل ويوظف الحديث لتكريس التقليد، أو يستخدم التقليد لتبرير استعمال الحديث. وهذا ما يسميه محمد سبيلا ب»الحداثة الهجينة أو الهوية الخُلاسية».

قلق
ومع ذلك، وبحكم استناد الفكر الحديث إلى العقل، فإنه يستمد بعض مشروعيته، أولا، من التفكير في زمنه، وثانيا، من ممارسة النقد النشط لأسس الفكر والمجتمع والسياسة. لذلك لا ينفصل فكر الحداثة عن حداثة التفكير.
ويعتبرشارل تايلور، في كتاب«قلق الحداثة»، أننا بإزاء«قلق إيبيستمولوجي»، لأننا لا نفهم أسباب أعطابنا ولا نعرف كيف نخفّف منها علينا. ولتفسير هذا القلق يتحدث تايلور عن ثلاثة أسباب، الأول يعود إلى انتصار الفردانية، وما تحمله من اختيارات أنانية ضيقة، والثاني يفسّره بأولوية وهيمنة العقل الأداتي، لدرجة أصبح يهدد بتملّك كل أنماط وجودنا، والثالث يحيل على التداعيات السياسية للفردانية التي أدت إلى إضعاف الروابط الجماعية، وإلى تراجع الاهتمام بالمشاركة العمومية.
فليس التفكير في الحداثة مجرد تشكيل للمفهوم، أو نقل رسائل أو زخرفًا بلاغيًا، إنه مادة وإطار الإنتاج النظري، داخل اللغة وضدها. من هنا يظهر البعد السياسي للفكر، فالتدخل في اللغة باعتباره فعلا، والتنويع داخلها كتوليد للفوارق، من منطلق«المهمة»التشخيصية للحضارة، يشكل نوعًا من«المشروع الإيتيقي»، منظورا إليه بوصفه صيرورة مغايرة.
تبين العديد من التحولات، في الفكر والتاريخ، أن «مفهوم» الحداثة في حاجة دائما إلى مراجعة وإلى إعادة تحديد، حسب السياقات والتجارب، كما هو في حاجة إلى الاجتهاد لإزاحة بعض الأبعاد الرومانسية، بله السحرية التي كثيرا ما تحضر، بأشكال مختلفة، عند استدعاء الحداثة، أو التعبير عن التوق إلى مشروع نهضوي، أو إلى مجتمع في طور الصعود.
ذلك أن الفكر الحديث مطالب بنقد النماذج التكرارية التي تعيد إنتاج الماضي، كما أنه في حاجة إلى بيئة حاضنة. ويبدو أننا نعاني في المجتمعات العربية من خصاص كبير على هذا الصعيد، أولا، لأن بيئة الحداثة عندنا يشوش عليها التقليد، المتمثل في الذهنيات، وفي التشكيلة الاجتماعية، وفي العلاقة بالمرأة، وبفوضى المدينة (اللهم بعض الاستثناءات القليلة)، وفي النقص الظاهر في الثقافة العصرية، وثانيا، لأننا نفتقد مشروعا تاريخيا يمتلك ما يلزم من مقومات التخفيف من ثقل التقليد، حيث تهيمن الحداثة في بعض المجتمعات بوساطة مظاهرها التقنية الأكثر قابلية للتسويق والاستهلاك، على حساب عملية العقلنة الممتدة في الزمن التي يتطلبها مشروعها التاريخي.
ولذلك فالدعوة إلى الحداثة أو إلى الإبداع، أو المطالبة بهما، عليها أن تنطلق من دلالاتها الفاعلة والفعلية، وليست من التحديث المغشوش، أو الحداثة المشوهة، أو الصمّاء (التي لا أصداء لها sans résonnance، أو التي لا يمكن البناء على تراكماتها وعلى مكتسباتها)، كما أن الدعوة إلى توطينها يتعين أن تتساوق مع يقظة فكرية وقيمية، وإعادة بناء أرضية ثقافية، ومجال عمومي قادر على الاعتراف الفعلي بالحداثة وبالحس الابتكاري، انطلاقا من الانخراط في إنتاج معرفة عصرية نافعة، واعتراف بكرامة الكائن، وتوسيع دائرة الحريات، ومحاصرة كل تعبيرات التطرف، باسم المقدس أو بغيره. لأنه من دون بنيات حديثة حقّا، كالمعرفة، والاعتراف، والثقة، لا مجال للتعويل على القوة التغييرية للتحديث.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©