الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

حبيب الصايغ.. شاعرية الخيميائي!

حبيب الصايغ.. شاعرية الخيميائي!
29 أغسطس 2019 02:14

إبراهيم الملا


«لن أهادن موتي
موتي سؤال
وموتي اشتعال»
.....................................................................................................................

هكذا واجه حبيب الصايغ الموت، واعتمده كمساجلة حارّة، صدامية، وجريئة، بين ما يهبه الحضور، وما ينهبه الغياب، الحضور كصيغة توافقية مع الوجود اللحظي، والغياب ككيان ممزّق في اللاوجود، كتب حبيب الصايغ قصيدته الأخيرة التي لن يقرأها أحد.. كتبها بجسده هذه المرة، مصطحبا مغامرته الشعرية إلى حدودها الشاهقة، إلى الغموض الذي لن يزيحه أي وضوح محتمل، أو أية قراءة تفكيكية أو انطباعية أو تأويلية تحوم حول المقاصد، أو تقفز في قلب المعنى.. خرج الشاعر هنا عن نصّ الحياة.. عن انشغالات النهار، وعزلة الليل ... ولم يعد الوقت متاحا للتزجية، أو اختراع فسحة ترعى فيها التأملات، لم يعد في معيّة الزمن ما يمكن الرهان عليه لانبثاق شرارة إلهام، أو انتظار للحظة إشراق، لا خيال انتقائي هنا لارتكاب لعبة «روليت» غادرة، يتعانق فيها الهلاك مع النجاة، والجسارة مع الانكسار، والغلَبة مع الخذلان، ذهب الشاعر إلى المبتغى كله، وإلى المنتهى الأكيد، ومال حيث يميل الهمود إلى بقعة ثاوية، وحيث تذوب العتمة في ظلمة الأبد.

لكنها البشارات الباقية، المتوهّجة، التي تجعل الخلود سيّالا ومتناسلا في الإرث الشعري الضاري، الإشكالي، والهائج المتماوج في انتقالاته وإبدالاته وتحوّلاته ومناوباته بين العمودي والتفعيلي والحرّ، ذلك الإرث الذي تركه الصايغ وديعة للأيام في تلاحقها، وللذاكرات في تدفقها ... وديعة الرثاءات اللامعة، المنطلقة من صرخة الولادة بدءا، والقارّة في هدأة الموت انتهاءً، فيما يشبه التضامن مع تصورات الفيلسوف مارتن هيدغر حول الهوس التحريضي للموت من أجل التشبثّ بالحياة واستثمار فضائلها والتوجّس من شرورها، حيث يقول هيدغر : «إذا قبلت الموت في حياتي واعترفت به وواجهته مباشرة، سأحرّر نفسي من قلق الموت وسوء الحياة، وحينها فقط سأكون حرًا في أن أصبح نفسي».
في قصيدته الملحمية «هنا بار بني عبس .. الدعوة عامة» التي أصدرها مبكرا العام 1980 كمجموعة شعرية فارهة ومدويّة، يتكئ الصايغ على هذه العلائق المتشابكة بين الانوجاد والفناء، ويقدّم رؤيته الخاصة للموت بصيغة تنبؤية لا تنفصل عن الانشغال بالقلق المحفّز للحياة ذاتها، لديمومتها القاصرة والمبتورة، الحياة المتطلّبة، التي ينهشها العدم من كل جانب، ولكنها تقاوم وتناضل وتتنفس، رغم الحصار الخانق لفكرة الموت.
يقول الصايغ في أحد مقاطع قصيدته العارمة تلك:

« ابتدأت أعدّ النجوم
وما جئت
سيّان عندي التذكّر والموت
سيّان عندي انتظارك والموت»
وفي مقطع آخر من ذات القصيدة، يقول:
« وحيد أنا
ضائع كالفصول الشريدة
إن الرثاء انتهاء الحضارات
فلتربطوني إلى شاهد القبر كي ما أغني
وحيد أنا
البيد حولي ترسمني من جديد
وتركض نحوي السواحل».

وهنا علينا أن نستل الذاكرة من رقدتها الطويلة، ذاكرة الحالة الثقافية المحلية التي خرج حبيب الصايغ من أعطافها، من أسئلتها الحارقة بالأحرى، مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، عندما كان طعم القصيدة لاذعا، وملمحها ساطعا، بعد فترة سبات وانهاك وخيبة، انبعث الشعر وقتها مثل طائر الفينيق منتفضا ومتفجرا كالينابيع الحبيسة منذ دهر، ونافضا عن جسده رماد الحيرة المعلّقة، والانتكاسات المتلاحقة، والتوصيفات المنهزمة، سياسيا واجتماعيا وفكريا على المستويين العربي والإقليمي. كان على هذا الجدب الروحي أن يينع، وعلى هذا الخراب المعرفي أن ينحسر، وكان حبيب الصايغ حاضرا في قلب المتاهة التوصيفية تلك، فعمل (منفردا بصيغة الجمع) على ضخّ الحيوية والعنفوان والعافية في الجسد الثقافي المستلب، والمعتلّ، و(المتشائل) أو ( المتفائل) الذي ضيّع مساره بين تفاؤل فائض وتشاؤم مفرط، ففي تضاعيف حالة اللا استقرار تلك، كانت تجليات النشأة المستأنفة للكتابة الإبداعية في الخليج تنضح من الماء إلى الماء، ومن الجبل إلى الصحراء، وكانت تطلّ يافعة في البراري و «السيوح»، وتغسل المدن الطالعة توّا من عطالة الرمل، وغفوة الكثبان، كانت هذه التجليّات النصيّة المحفوفة بنقائها تتشكل على أيدي ثلّة من الشعراء الإماراتيين، والذين كان الدكتور أحمد المدني أبرزهم من ناحية تبنيه للنزعة التجديدية في جانبها التنظيري، بينما كان حبيب الصايغ هو المشتغل على استخلاص النفائس الشعرية، وهو الخيميائي الضليع، القادر على تحويل الرغبة إلى فعل، والغاية إلى وسيلة، والطموح إلى بذل، مستخدما سحر المفردة لاستنطاق الدهشة، ومستعينا بطاقة المخيلة لتوليد مشاع تعبيري فاتن يرتقي مع زهو اللغة، ويسمو نحو اشتقاقات عالية ومتجاوز لسقف العادي والمكرر للنص التقليدي المصان والمغلّف في مدافن ورقية وأرشيفية، لم تعد فاعلة ومؤثرة في ذهنية الجيل الأدبي المعاصر.
كان لهذه المرحلة التجديدية المتماسّة مع المشهد الثقافي المحلي عموما، والمتعلقة بالشعر خصوصا، انزياحات وتقلبات وصدامات خلقتها المواجهة المبكرة مع العقلية المحافظة بمستوياتها وتوجهاتها المختلفة، والتي كانت ترى في التجديد تمردا ومناكفة و «ردّة ثقافية» لا تحتمل، ومن هنا جاءت شراسة الصراع الذي تصدى له الصايغ ومجموعة الشعراء الشباب الذين تحلّقوا حول المشروع التنويري المبكّر، وساندوه بقوة رغم التضحيات التي كان عليهم بذلها، ورغم الخسارات التي كان عليهم تحملها.

ضد العادة البائسة
كتب حبيب الصايغ في أحد مقالاته الجامحة بداية الثمانينيات: «على الشعر أن يكون مجاوزا للسائد، هادما له، ومحاولا إعادة تركيبه من جديد، الشعر ضد العادة البائسة، والتقليد الممجوج، فالموقف من الشكل يتعدى كونه مذهبا فنيا، ويصبح موقفا مع الحياة، معها ضد الموت، موقفا مع الحركة، معها ضد السكون، إنه سفر الإنسان الواعي في اتجاه المستقبل».
ورغم أن مسببات هذا الصدام لم يكن محورها نقد التراث باعتباره ملمحا أصيلا للهوية، ولكنه الصدام الذي نشأ نتيجة نفي وانغلاق «مفهوم التغيير» لدى حرّاس وسدنة التراث، واعتبار أي تطوير - يسعى للانكشاف على مناخات تعبيرية جديدة - بمثابة هتك للإطار الذي حشروا في داخله هذا التراث البشري القابل للفحص والمعاينة والمحاكمة أيضا.
كان تجديد الشعر حينها منطلقا لتجديد الوعي الجمعي الثقافي المتفرع نحو حقول إبداعية أخرى مثل القصة والرواية والتشكيل والمسرح وغيرها من الحقول المناوئة للنسق الاستهلاكي والانزواء السلبي في الجانبين الفني والأدبي، وبالتالي خلق حالة ديناميكية تضع «التجريب» في قلب المغامرة الانتقالية، دون إلغاء ولا ادعاء، بل تلبية لنداء الحداثة وما بعد الحداثة وما يمور فيهما من فضاءات مغرية لتجديد الخطاب الثقافي، تلك المغامرة الانتقالية التي اختبرها المكان وانتشى بها عمرانيا وإداريا واقتصاديا وتعليميا، فكان لا بد أن تواكب النقلة الشكلانية والظاهرية، نقلة أخرى نوعية في التفكير النقدي لمراجعة «الذهنية المتصلّبة» ومناقشتها وتحليلها والتخفيف من هيمنتها، حتى لا تختلّ معادلة التنمية الشاملة للإنسان والبنيان معا.
ظهر صوت حبيب الصايغ وسط هذه التحولات والانعطافات الاجتماعية والثقافية العاصفة، وكأنه هو الصوت الأبهى شعريا، والأكثر اختمارا ودربة ودراية في الجانب المعرفي، صوت لم يتشكل من فراغ، بل جاء ممتلئا بالوعود الزاهية والإمكانات الثريّة، صوت موصول بالعراقة اللغوية في جذرها الأصيل المشتبك مع الشعر الجاهلي وشعر العصور الإسلامية اللاحقة والمزدهرة، ومنتم في ذات الوقت للمختبر الشعري المعاصر في أوروبا وأميركا، وفي العواصم الثقافية العربية الكبرى مثل بيروت وبغداد ودمشق والقاهرة.
ولعل في ديوانه الأول «هنا بار بني عبس.. الدعوة العامة» ما يؤكد هذا المنحى التوافقي في المعمار الشعري لحبيب الصايغ، منحى ينطلق من التاريخي والميثولوجي في بعدهما العام، ليخاطب به الراهن والذاتي في بعدهما الخاص، فلا قطيعة كاملة هنا مع المخيال التراثي، ولا لجوء مطلقا لبنية جازمة ومتحققة بالكلية لشكل قصيدة النثر وما أنتجته من أنماط تعبيرية لاحقة يتداخل فيها السرد مع الشعر، والروي مع الحدس، لذلك يمكن أن نطلق على النتاج الشعري للصايغ في سمته المتناغم والمشاكس في آن، بأنه نتاج واضح حد الغموض، وغامض حدّ الوضوح، وحقق حضوره في المنطقة الوسط، وفي المدى المتوازن داخل هذه الجغرافيا الشعرية الشاسعة والمترامية الأطراف بين القديم والحديث، وبين الكلاسيكي والمعاصر، لم ينجرف حبيب الصايغ مع الحماسة الشعرية الطاغية، وضجيج التمرّد الانفعالي، لأنها حماسة تتأسس على ما يستحيل التأسيس عليه، وفي ذلك ضرب من الوهم والمغالاة والافراط، الذي يمكن أن تنهدم وتنهار داخله التجربة الشعرية في بداياتها، ولم يلجأ حبيب أيضا لتأسيس نصه على ما هو مؤسس أصلا، لأن في ذلك ضرب من محاكاة واستنساخ ومطابقة، وبالتالي كانت مقاييس الكتابة لديه محسوبة بدقة، كان هو العارف والقارئ والمطلّع على التجاذبات الشعرية الحاصلة، فاختار المحلّ الأسمى، والمكانة الأعلى، وظلّ مراقبا لما يجول تحت ناظريه من مماحكات وجدل ونقاشات بين المنتمين لأقصى اليمين والآخرين المنتمين لأقصى اليسار في توصيفهم للهوية الشعرية شكلا ومضمونا فيما يخص بنية وهيكلية وخطاب القصيدة، ووصلا وانفصالا فيما يخص القطيعة التامّة مع التراث، أو الاندماج الكامل فيها، ومن هذا المنطلق، واستيعابا لهذا الصراع وترويضه، جاءت الدواوين التالية لحبيب الصايغ بعد مجموعته الإشكالية الأولى ( هنا بار بني عبس) التي اختطّ فيها مسارا عصريا محايثا للوقائع التي ألمّت بعنترة بن شدّاد، كي يوائم بين الأضداد، ويؤالف بين الأنداد، وظهرت مجموعاته اللاحقة تباعا وهي : «التصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه» و«ميارى» و«قصائد إلى بيروت» و «وردة الكهولة» و«قصائد على بحر البحر» «ثلاثة أرباع الغيم»، وغيرها من النتاجات الشعرية القابضة على جمر «التميّز» روحا ومنطقا وأسلوبا.
ففي الحدّ الأدنى من الخصومة، ومع النسبة الأقل من الصحبة، كانت فلسفة حبيب الصايغ في التعاطي مع الشعر ومع انشغالات الحياة وإدارة مفاصلها الخاصة والعامة، هي الفلسفة التي تنحو لتشذيب الزوائد بتؤدة ورفق، والانهماك في صقل الجوهر بانتباه عميق ومخلص ومواكب للنظرة النافذة نحو الداخل، والرؤية الشاخصة إلى الذات، واستخلاص ما يكمن في الجذر السحيق والمتشعب للوعي، من كنوز معرفية ومناجم إبداعيه، وظّفها الصايغ وصاغها بحنكة ومهارة وافتتان، خدمة لمعجمه الشعري المحتدم، الغامر، الاستثنائي، والمتفرّد.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©